ما هي الذرة ؟ نموذج دالتون – مُنذ بُزوغ فجر الحضارات، كانت محاولة فهم المادة وجوهرها أحد أهم المباحث التي انشغل بها الفكر الإنساني وبالخصوص الفلسفة. وكان لفلاسفة الإغريق خبرة طويلة في تطوير المفهوم الذرِّي للكون ونَخصُّ بالذكر منهم (ديموقريطس- Democritus) الذي بيَّن أنَّ المادة تتكوَّن من أجزاء صغيرة جدًا غير مرئية وغير قابلة للتجزئة مُنفردة بذاتها سمَّاها «الذرَّات». إلَّا أنَّ مفهوم الذرَّة ظلَّ لقرونٍ طويلة مجرَّد مفهوم فلسفي ولم يجري اختباره على أرض الواقع ولم يدخل حيِّـز الاختبار العملي والمنهج العلمي المُتعارف عليه الآن إلَّا في القرن التاسع عشر. ومنذ ذلك الحين شهدَ مفهوم الذرَّة تطوراتٍ جذرية على يد مجموعة من العلماء ستتعرَّض هذه السلسلة لهم تِباعًا حسب التسلسل التاريخي وتُبيِّن أهمية اللمسات التي أضافها هؤلاء العلماء في زيادة فهمنا لكينونة الذرَّة.
وكان أول هؤلاء العلماء والذي وضع حجر الأساس للنظرية الذرِّية هو (جون دالتون- John Dalton) وهو عالم كيمياء وفيزياء وأرصاد جوية بريطاني وله إسهامات عديدة في هذه العلوم، وأيضًا له بحوثٌ مهمة في عمى الألوان الذي هو نفسه كان مُصابًا به ومن الجدير بالذكر أيضًا دوره المهم في مُحاربة العلم الزائف وذلك من خلال تكذيبه لادعاءات ما يُعرف بـ (الخيمياء- Alchemy) «الكيمياء القديمة».
وقد استند دالتون في وضع نظريته على نتيجة بحوثه في الغازات واستنادًا على قانونيّ حِفظ الكتلة والنِسَب الثابتة التي بيَّنت أنَّ المادة تتكوَّن من ذرَّات في النهاية، وقد أرسى دالتون نظريته على أربعة مفاهيم أساسية وهي:
أولًا كُلّ المواد تتكوَّن من ذرَّات:
افترض دالتون من خلال القانونين المذكورين سابقًا أن كُلّ المواد تتكوَّن من أجسام صغيرة صلبة مُتحرِّكة غير قابلة للانقسام وهي الذرَّات. ويمكن تشبيه الذرَّات حسب هذه النظرية بِكُريات صلبة مُتناهية في الصغر.
ثانيًا كُلّ الذرَّات لعنصر مُعيَّن مُتماثلة في الكتلة والخصائص:
كما افترض دالتون في نظريته أن كُلّ ذرَّة لعنصر مُعيَّن لها نفس خصائص الذرَّات الأخرى لنفس العنصر ومختلفة عن ذرَّات باقي العناصر، وهو بالطبع صحيحٌ تمامًا فعلى سبيل المثال لو فحصنا ذرَّتين من الذهب فسنجد أنَّ لهما نفس المواصفات بالضبط أمَّـــا إذا قارناهما بذرَّة فضة فسنجد اختلاف بين ذرَّات العنصرين. وبناءً على تماثل ذرَّات العناصر فإن الخصائص الكيميائية والفيزيائية للعنصر الواحد تكون ثابتة مثل درجة الانصهار فهي تكون واحدة لأي قطعتين من الذهب لكنها مختلفة عن درجة الانصهار لقطعة من الفضة.
ثالثًا المُركبات الكيميائية هي عبارة عن مزيج من نوعين أو أكثر من الذرَّات:
في الجزء الثالث من نظريته اقترح دالتون أنَّ جميع المُركبات الكيميائية تتكوَّن من تركيب أو مزيج عناصر مختلفة مع بعضها بنسبٍ ثابتة، وهذا صحيحٌ تمامًا فعند مزج عنصر الصوديوم وهو فلز مع غاز الكلور السام وهو عنصر أيضًا فإن الناتج هو الملح حيث امتزج العنصران بنسبة ثابتة وهي واحد لواحد بما معناه أن جزيئة الملح تتكوَّن من ذرَّة صوديوم وذرَّة كلور، ومن الجدير بالذكر أن هذه النِسب يجب أن تكون أعدادًا صحيحة حسب هذه النظرية طالما أن الذرَّات في الأصل غير قابلة للتجزئة.
رابعًا التفاعل الكيميائي هو عبارة عن إعادة ترتيب الذرَّات بشكل آخر:
وضَّحَ دالتون أنَّ التفاعل الكيميائي لا يُدمِّر الذرَّات ولا يستحدث وإنما يُعيد ترتيبها بصيغة أخرى ففي مثال الملح السابق فإن ذرتيّ الصوديوم والكلور مازالتا موجودتين لكن أُعيد ترتيبُهما مع بعضهما وأنتجتا مُركَّب الملح.
خِتامًا لقد كانت هذه النظرية هي البوابة لفهم الذرَّة بشكل علمي أوسع وعلى الرغم من الثغرات الموجودة فيها حيث أنها افترضت عدم انقسام الذرَّات إلى جسيماتٍ أصغر، وكذلك لم تُشر إلى القوى الكهربائية التي تتحكم بالذرَّة، وعلى الرغم من التعديلات التي أُجريت عليها لاحقًا فإن بعض مفاهيمها لازال قائمًا إلى يومنا هذا.
إعداد: عمر عدنان
تدقيق: هبة فارس