تعمل الحواسيب العادية وفق قواعد منطقية محدّدة، لكن الجسيمات الكمومية الصغيرة -كالإلكترونات والفوتونات- يمكنها كسر هذه القواعد.
الحوسبة الكمومية هي فكرة استخدام غرابة ميكانيك الكم هذه لمعالجة المعلومات بطريقةٍ تختلف كليًا عن طريقة عمل الحواسيب العادية، وهذا ما يجعلها في بعض الحالات، أسرع بكثير من أي حاسوبٍ عاديّ.
على سبيل المثال، يمكن لحاسوبٍ كموميّ أن يفكّ بسهولة التشفير الذي تستعمله البنوك على الإنترنت.
إذن، فهل هي حواسيب خارقة؟
ليس تمامًا، الحاسوب الكموميّ ليس عبارة عن حاسوب عادي سريعٍ جدًا، هناك عددٌ من المهام يكون فيها الحاسوب الكموميّ مذهلًا، كتحليل عددٍ لعوامله الأولية (ومن هنا تأتي قدرته على فكّ التشفير).
ولكن، بالنسبة لمعظم المهام سيكون الحاسوب الكمومي أسرع قليلًا من الحاسوب العاديّ.
ما هي المهام التي يمكن أن يُستخدم الحاسوب الكمومي فيها؟
من المرجّح أن يُستخدم من قِبل الوكالات الحكومية، والباحثين، والشركات، والجامعات لحل المسائل التي تعجز عنها حواسيب اليوم.
الفكرة العملية الأولى، والتي اقتُرحت من قِبل الفيزيائيّ ريتشارد فاينمان عام 1981، كانت استخدام الحواسيب الكمومية لمحاكاة ميكانيكا الكم، هذا سيُحدث تغييرًا في مجاليّ الكيمياء والبيولوجيا.
على سبيل المثال، يمكن للكيميائيين نمذجة التفاعلات بين العقاقير الكيميائية، ويمكن لعلماء الأحياء أن يدرسوا جميع الطرق التي يمكن للبروتينات أن تندرج تحتها، وتتفاعل مع بعضها البعض.
بقيت الحواسيب الكمومية محطَّ اهتمامٍ أكاديميّ فحسب، إلى أن اكتشف عالم الرياضيات الأمريكي (بيتر شور – Peter Shor) طريقةً لاستخدام الحواسيب الكمومية لفكّ التشفير.
إن معظم أنظمة الحماية الإلكترونية على الإنترنت حاليًا، تعمل على مبدأ أنه من شبه المستحيل معرفة العوامل الأولية لعددٍ كبير جدًا، كل ما يمكن للحواسيب العادية أن تفعله هو أن تجرب كل احتمالٍ ممكن، ما قد يأخذ مليارات السنين من الوقت.
أما باستخدام خوارزمية شور، يمكن للحواسيب الكمومية إنجاز المهمة خلال بضع ساعات.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الحواسيب الكمومية مذهلة في التعرّف على الأنماط، ما يفيد في مسائل (تعلّم الآلة – Machine Learning)؛ كالتعرّف على الأشياء المختلفة في صور، وستتمكن هذه الحواسيب أيضًا من بناء نماذج لتوقّع المستقبل كما في التوقّع طويل المدى لحالة الطقس.
ولكن في الحقيقة، إن استخدامات الحواسيب الكمومية غير مُتوقّعة، إذ قال رئيس شركة IBM توماس واطسون: «أظن أن العالم لا يحتاج إلى أكثر من خمسة حواسيب»، يوجد اليوم خمسة في كل منزل!
كيف تعمل الحواسيب الكمومية؟
تستخدم الحواسيب العادية البتّات (bits)، والتي قد تحمل إحدى القيمتين، صفرًا أو واحدًا.
تستخدم الحواسيب الكمومية (الكيوبتات – qubits)، والتي يمكن أيضًا أن تأخذ إما القيمة واحد أو القيمة صفر، ولكن ما يجعلها مميزة أنها من الممكن أن توجد في حالةٍ وسطية تُدعى (التراكب – superposition) إذ يمكن أن تأخذ القيمتين؛ واحدًا وصفرًا معًا، هذه القدرة هي التي تعطي الحواسيب الكمومية قوّتها.
كيف تفيدنا حالة التراكب؟
الفرق بين الحواسيب العادية والحواسيب الكمومية يكمن في اختلاف طريقة كلٍّ منهما في التعامل مع المسائل.
يحلُّ الحاسوب العادي المسائل بالطريقة نفسها التي قد تحاول فيها الخروج من متاهة، تجريب كل ممرٍّ ممكن، حتى تجد في النهاية الحل المطلوب، ولكن تسمح ميزة التراكب للحواسيب الكمومية بتجريب جميع الطرق الممكنة دفعةً واحدة.
يمكن لبتين في حاسوبك أن يأخذا إحدى الحالات الآتية (00،01،10،11) فقط، هذا يجعل الحاسوب قادرًا على معالجة مدخلٍ واحد في كل مرة (مثل تجربة الممر في المتاهة).
في الحاسوب الكموميّ، يمكن لكيوبتين أن تمثّلا الحالات الأربع السابقة نفسها (00، 01،10،11). الاختلاف في أن القدرة على تحقيق التراكب تسمح للكيوبتين أن تمثّلا الحالات الأربع بنفس الوقت، هذا يشبه قليلًا عمل أربعة حواسيب عادية جنبًا إلى جنب.
إذا أضفت بتاتٍ أكثر لحاسوبٍ عاديّ، لن تتغير خاصيته في التعامل مع مثالٍ واحدٍ فقط، ولكن إضافة كيوبتاتٍ إلى حاسوبٍ كموميّ تزيد من قوته بشكلٍ أُسيّ، إذ إن n كيوبت يمكنها تمثيل 2^n بت عادي.
هذا يشبه قصةً قديمةً عن الهندي الذي اخترع لعبة الشطرنج والذي يُدعى سيسا، إذ أعجبت اللعبة الملك وقرّر أن يكافئ سيسا فسأله عما يريده فأجاب سيسا بتواضعٍ أنه يريد لوح شطرنجٍ عليه حبة قمح على المربع الأول، حبّتان على الثاني، أربعٌ على الثالث وهكذا.
وافق الملك فورًا دون أن يلاحظ أنه وعده بكمية قمح أكبر من الكمية الموجودة على كوكب الأرض، هذه قوة النمو الأسيّ.
وكما ضاعف كل مربعٍ كمية القمح، فإن كل كيوبت يضاعف قوة الحاسوب الكموميّ، ثلاث كيوبتات ستعطيك 2^3 أي ثماني حالات في نفس الوقت، أربعٌ ستعطيك 2^4 أي 16 حالة، أما 64 كيوبتًا فستعطيك 2^64 ما يعني 1844674407370960000 احتمال (ميلون تيرابايت).
وفي حين يمكن لـ 64 بتًا أن تمثل 2^64 حالة، فإنها لا تمثّل سوى حالة واحدة منها في كل مرة. وسيستغرق المرور على كل هذه الاحتمالات بسرعة ملياري احتمالٍ في الثانية (ما يساوي سرعة حاسوبٍ عادي نموذجيّ) حوالي 400 سنة.
هذا يعني أن الحاسوب الكموميّ يمكنه حل مسائل (مستحيلة عمليًا) بالنسبة للحواسيب العادية.
ولكن للحصول على هذه السرعة الخارقة، يجب ربط مصير كل من هذه الكيوبتات ببعض من خلال عمليةٍ تُدعى التشابك الكموميّ، هذه الظاهرة الغريبة التي سمّاها آينشتاين «التأثير الشبحي عن بُعد» يمكنها ربط جسيمين كمومين حتى ولو كانا في جهتين متقابلتين من الكون.
كيف نصنع كيوبتًا؟
لكي نصنع كيوبتًا، سنحتاج إلى جسيمٍ يمكنه تحقيق حالة تراكبٍ كموميّ بين حالتين.
نواة الذرة قد تمثل كيوبتًا، اتجاه دورانها يمكن أن يتجه باتجاهاتٍ مختلفة، إما للأعلى أو للأسفل تبعًا لحقلٍ مغناطيسيّ، التحدي هو توضيع وعنونة هذه الذرة المفردة.
صنع فريقٌ أستراليّ بقيادة (مايكل سيمونز – Michelle Simmons) من (جامعة ساوث ويلز الجديدة – University of New South Wales) كيوبتاتٍ ذرية عن طريق وضع ذرة فوسفورٍ واحدة في مكانٍ معروفٍ داخل كريستالة من السيليكون.
الفكرة الأخرى لصنع كيوبت هي نزع إلكترونٍ من ذرة وتحويله إلى أيون، ثم يمكن استخدام حقول كهرومغناطيسية لتعليق الأيون في الفراغ، ثم استخدام أشعة الليزر لتعديل حالته.
يمكن لتيارٍ في حلقةٍ من معدن ذي ناقليةٍ فائقة أن يحقّق حالة تراكبٍ كموميّ بين الدوران بجهة أو عكس جهة عقارب الساعة، مثل طاحونةٍ تدور بالاتجاهين معًا، تستخدم الشركة الكندية D-WAVE هذه التقنية في حواسيبها الكمومية.
ويمكن لفوتونٍ أن يحقّق حالة تراكبٍ بالنسبة لجهة اهتزاز موجته، إذ صممت بضع مجموعات كمجموعةٍ من جامعة بريستول في بيريطانيا، داراتٍ كمومية عن طريق إرسال فوتونٍ إلى متاهة من الألياف الضوئية والمرايا.
كيف تحقّق حالة التراكب؟
هل جرّبت موازنة قطعة معدنية تمامًا على حافّتها؟ هذا يشبه برمجة كيوبت، إذ يجب أن تفعل شيئًا للكيوبت بحيث يصبح متوازنًا بين حالتيه.
كيف نقرأ المعلومات من الكيوبت؟
هناك الكثير من الغرابة التي تحيط بما يحدث في الحوسبة الكمومية، ولكن ما يحدث ليس سحرًا، وإنما ميكانيك الكم.
لنفترض أن لدينا حاسوبًا كموميًا مكونًا من 64 كيوبتًا، ونريد القيام بعمليةٍ ما باستخدامه.
عليك أولًا أن تجعل كل كيوبت في حالة تراكبٍ كموميّ تمامًا؛ كوضع 64 قطعة معدنية على طاولة بحيث تكون متوضّعة على الحافة، تعلم أن أحد الاحتمالات هو الجواب الصحيح، ولكن أيًّا منها؟
المشكلة أن قراءة الكيوبت تتسبّب بانهيار حالة التراكب، كأنك ضربت الطاولة بقبضتك.
هنا يأتي دور الخوارزميات الكمومية كخوارزمية شور، إذ تجعل احتمالية اتخاذ الكيوبتات للاحتمالية المطلوبة أكبر.
هل بُنيَ أيُّ حاسوب كمومي، أم بعد؟
لا، ما زال العمل غالبًا في مرحلة البحث، إذ يصعب على العلماء التعامل مع بضع كيوبتات.
في حزيران 2016، احتفلت مجلة نايتشر بتصميم حاسوبٍ كمومي من 9 كيوبتات صممته شركة غوغل.
وادّعت D-WAVE أنها بَنَت أول حاسوبٍ كموميّ على مستوى كبير يستخدم 1024 حلقةً من معدن ذي ناقلية فائقة كالكيوبتات، وعلى الرغم من أن الجهاز يبلي حسنًا في حل (مسائل التحسين -optimization (proplems، إلا أن معظم الفيزيائيين يشكّون في أن D-WAVE بنت حاسوبًا كموميًا حقيقيًا.
ما الذي يمنعنا من بناء حاسوبٍ كموميّ؟
على الرغم من أننا نعرف نظريًا كيف يجب أن يبدو الحاسوب الكموميّ، إلا أن بناءه مليءٌ بالتحديات على جميع المستويات من تصميم الكيوبتات مرورًا بقراءة وكتابة المعلومات عليها، إلى نقل المعلومات جيئة وذهابًا مع الحفاظ عليها من الضياع.
يتطلب الكيوبت أيضًا عزلًا كاملًا وحرارة أعلى بمئة درجة من الصفر المطلق، إن أي اهتزازًا من ذرة مجاورة قد يجعل الكيوبت يخسر معلوماته الكمومية.
تكمن المشكلة الأصعب في كيفية الحفاظ على حالات التراكب وحالات التشابك لمدةٍ تكفي للقيام بالحسابات عليها، أو ما يُدعى زمن الترابط.
الحقيقة أننا لا نعرف كم من الوقت سيستغرق بناء أول حاسوب كمومي، لكن السباق لبنائه أصبح أحد أكبر الأهداف العلمية التي تتنافس العديد من الوكالات والشركات لتحقيقها، بما فيها من طواقم العلماء والمهندسين.
- ترجمة: مهران يوسف
- تدقيق: تسنيم المنجّد
- تحرير: صهيب الأغبري
- المصدر