تملك أجسامنا جيشًا مختصًا بالبحث والتدمير، وللأجسام المضادة دور رئيسي في هذه المعركة. الأجسام المضادّة هي بروتينات متخصصة لها شكل حرف Y، ترتبط بالأجسام الغريبة التي تدخل إلى الجسم -كالفيروسات والجراثيم والفطريات والطفيليات- بآلية مشابهة للقفل والمفتاح. تُعَد الأجسام المضادة (كتيبة البحث) في جيش البحث والتدمير الخاص بالجهاز المناعي، مهمتها إيجاد الأجسام المعادية وتمييزها بهدف تدميرها.
يقول الدكتور وورنر غرين مدير مركز البحث عن علاج فيروس الإيدز في مؤسسة غلادستون في سان فرانسيسكو: «تتحرر الأجسام المضادّة من الخلية وتبدأ عملية البحث».
عندما تجد الأجسام المضادة هدفها ترتبط به، ما يحفز سلسلة من التفاعلات التي تقضي على الجسم الدخيل. تُعَد الأجسام المضادّة جزءًا مما يُسمى جهاز المناعة المُكتسَب، إذ يتعلم التعرف على مُمرضات محددة وإزالتها.
كيف تبدو الأجسام المضادة ؟
يرتبط الذراعان العلويان من الجسم المضاد المشابه للحرف Y بما يُعرَف بالمُستضَد antigen، الذي قد يكون جزيئًا أو قطعة جزيئية، وهي غالبًا جزء من الجرثومة أو الفيروس. يملك فيروس كورونا الجديد مثلًا أشواكًا فريدة على غلافه الخارجي، وترتبط بعض الأجسام المضادة ببروتينات هذه الأشواك وتتعرف عليها.
يرتبط القسم السفلي أو الساق من الجسم المضاد ببعض الأجزاء الأخرى من جهاز المناعة. هذه الأجزاء بإمكانها قتل المستضد أو تحفيز الجهاز المناعي بطرق أخرى، منها تحريض سلسلة تفاعلات البروتينات المتممة. يقول الدكتور غرين: «البروتينات هي الفاعلة في الحقيقة»، إذ تشكل ثقوبًا في الخلية المستهدفة كغلاف الفيروس مثلًا.
يقول الدكتور جيسون سيستر، وهو بروفيسور مختص في علم المناعة وعلم الأحياء الدقيقة: «إن كل الأجسام المضادة -التي تُسمى أيضًا الغلوبيولينات المناعية (Ig)- لها الشكل الأساسي ذاته، لكنها تنقسم إلى 5 أنواع مختلفة، هي IgG وIgM وIgA وIgD وIgE»
يختلف كل من هذه الأنواع اختلافًا طفيفًا في الشكل، ويؤدي دورًا مختلفًا في جهاز المناعة. فالغلوبولين المناعي IgG مثلًا هو قطعة واحدة مشابهة للحرف Y، أما IgM فهو مؤلف من 5 قطع متراصة، يرتبط كل منها بمستضد مختلف.
تنتشر الأجسام المضادّة من النوع IgG و IgM في مجرى الدم وتدخل إلى الأعضاء، في حين تُفرَز الأجسام المضادة من النوع IgA من الجسم مع المخاط والإفرازات، أما الأجسام المضادّة من النوع IgE فتحفز ردود الفعل التحسسية عادةً، كالتحسس من الفستق أو غبار الطلع، وأما الأجسام المضادّة من النوع IgD فقد ظلت غامضةً فترةً طويلة، لكنها تؤدي دورًا في تفعيل الخلايا التي تنتج الأجسام المضادة.
أين تتشكل الأجسام المضادة؟
يقول الدكتور سايمون غودمان، مدير البرامج التقنية في مؤسسة مجتمع الأجسام المضادة، وهي مؤسسة غير ربحية تمثل العاملين في مجال أبحاث الأجسام المضادة وتطويرها: «تجب معرفة الخلايا البائية لفهم الأجسام المضادة. هذه الخلايا هي من الكريات البيضاء التي تتشكل في نقي العظام، يوجد في الجسم زهاء تريليون خلية بائية، لكل منها جسم مضاد فريد من النوع IgM على سطحها، ويرتبط كل منها بمستضد مختلف».
يسمح هذا التنوع الهائل للجسم بالتعرف على أي مادة قد تدخل إليه تقريبًا. وينتج هذا التنوع عن خلط الجينات المسؤولة عن موقع الارتباط لكل جسم مضاد -مثل خلط أوراق اللعب- في كل خلية بائية. يقول الدكتور سيستر: «إن حجم إعادة الترتيب الذي يحدث هائل جدًا».
تتجول هذه الخلايا البائية في الجسم، وتبقى مطولًا في بعض الأماكن كالعقد اللمفية واللوزتين، وتبقى غير مرتبطة أكثر الوقت. لكن إذا ارتبطت خلية بائية بمستضد -وهو احتمال واحد من مليون- فإنها تحفز الخلايا البائية الأخرى. إذ يزداد حجمها بعملية تعرف بالتوسع النسيلي.
تكون الخلايا الناتجة مطابقة للخلايا الأم، وبعد نحو أسبوع تتشكل مئات الآلاف إلى الملايين من هذه النسخ. وفي نهاية المطاف تتمايز هذه الخلايا البائية المتوسعة نسيليًا إلى خلايا بلازمية، تُعَد مصانع للأجسام المضادة، إذ تفرز 10 آلاف جسم مضاد من كل خلية في الثانية الواحدة، وتواصل هذه العملية أسابيع أو سنوات أحيانًا.
يقول غودمان: «إذا عددنا الخلايا البائية أقفالًا، فيمكننا أن نعد الأجسام التي تدور في الجسم مفاتيح، بعضها قد يتوافق مع القفل جيدًا وبعضها أقل توافقًا، وقد لا يتوافق بعضها إطلاقًا، واعتمادًا على هذا التوافق بين الجسيمات الدقيقة والقفل الموجود على سطح الخلية البائية، تتفاعل الخلية وتنقسم»، وكلما تكاثرت الخلايا البائية تنتج خلايا بلازمية أكثر، وينتج عنها أجسام مضادة محددة.
لا ينتج الجسم نوعًا واحدًا من الأجسام المضادة، بل ينتج عددًا هائلًا منها، يرتبط كل منها بجزء مختلف من الجسيم الغريب.
يقول الدكتور غرين: «لا تقوم جميع الأجسام المضادة بنفس العمل عند ارتباطها بالجسم الدخيل، فبعضها يوقف العدوى ويبطل التهديد مباشرةً بمنع دخول الجسيم إلى الخلية، وبعضها الآخر يضع علامةً على الجسيم لتتعرف عليه الخلايا القاتلة -وهي ليست أجسامًا مضادة- في جهاز المناعة وتزيله. وبعضها يحيط بالفيروس أو الجرثوم مشكلًا غلافًا لزجًا، وبعضها يخبر خلايا مناعية تُسمى البالعات بوجود الجسيم لتبتلعه. وقد ينتج عن هذه العملية نتائج معاكسة مع الفيروسات التي قد تتكيف مع هذه الآلية لتغزو خلايا أخرى».
«إن أول نوع يتشكل من الأجسام المضادة عند التعرض لفيروس هو IgM، الذي يظهر في الجسم بعد 7-10 أيام من التعرض للفيروس ويرتبط به. يكون ارتباط القطع الخمسة المشكلة للجسم المضاد بالمستضد ضعيفًا إذا تم كل منه منفردًا، أما ارتباطها معًا فيشكل رابطًا قويًا».
وبعد 10-14 يومًا، يبدأ الجسم بتشكيل الجسم المضاد IgG، الذي يُعَد المعمل الرئيسي للجهاز المناعي، ويمكنه المرور عبر المشيمة ليعطي الجنين مناعة سلبية ضد بعض الأمراض حتى يكتمل جهازه المناعي.
إن الجهاز المناعي عادةً دقيق جدًا في تعرفه على الأعداء وتجاهله خلايا الجسم نفسها، لكن قد تفشل هذه العملية أحيانًا، وذلك عند تدخُّل الخلايا التائية، وهي نوع آخر من الكريات البيضاء، إذ يستخدمها الجسم في التحقق المزدوج من الأهداف، فتحدث الاستجابة المناعية فقط عند تعرف كل من الخلايا البائية والتائية على الجسيم بوصفه جسمًا غريبًا.
يُفترض أن يزيل الجسم الخلايا البائية التي تنتج أجسامًا مضادة ذاتية تتفاعل مع خلايا الجسم نفسها، لكن إذا لم يحدث ذلك، قد يستهدف الجسم خلاياه نفسها ويدمرها، ما يسبب أمراض المناعة الذاتية، كالذئبة والتهاب المفاصل الروماتويدي و النمط الأول من السكري. يوجد أكثر من 100 مرض من أمراض المناعة الذاتية وفقًا للموسسة الأمريكية للأمراض المرتبطة بالمناعة الذاتية.
ما الأجسام المضادة وحيدة النسيلة؟
يقول الدكتور غودمان: «أصبحت الأجسام المضادة أساسًا للعديد من الأدوية المفيدة، إضافةً إلى بعض أقوى التقنيات المخبرية في البيولوجيا، وأهمها ما يُسمى الأجسام المضادة وحيدة النسيلة».
يلقح الباحثون حيوانات -أو بشرًا- لتحفيز عملية إنتاج الأجسام المضادة الخاصة بمادة معينة. ويصنع الجسم تدريجيًا المزيد من الأجسام المضادة الفعالة تجاه المستضد. تُنقّى هذه الخلايا المنتجة للأجسام المضادة من الكريات البيضاء، وتوضع في أطباق لمعرفة أي منها أفضل ارتباطًا بالمستضد، ثم تُعزَل الخلايا الأقوى ارتباطًا مشكلة مصانع مخصصة للأجسام المضادة فائقة الانتقائية.
تُدمَج هذه الخلية مع خلية سرطانية، مشكلةً ما يسمى خلية ورمية هجينة أو وحيدة النسيلة، وتُعَد هذه الخلية الهجينة مصنعًا دائمًا للأجسام المضادة نفسها تمامًا مرارًا وتكرارًا. تُدمج الخلية وحيدة النسيلة مع خلية سرطانية لأنها لا تتوقف عن التكاثر، وتستمر هذه الخلايا في إنتاج الأجسام المضادة دون توقف.
إنها أدوات دقيقة مذهلة، فلكل خط خلوي العديد من الاستعمالات، وتوجد الملايين من الأجسام المضادة التجارية، وتُستخدم في المختبرات لتمييز أدق الأهداف الخلوية وأصغرها.
تشكل الأجسام المضادة أساس العديد من الأدوية الأكثر مبيعًا، فدواء أداليموماب (Humira) مثلًا هو جسم مضاد وحيد النسيلة يُستخدم في علاج التهاب المفاصل الروماتويدي عبر تثبيط بروتينات التهابية تُعرَف بالسيتوكينات، ودواء بيفاسيزوماب (Avastin) يستهدف جزيء يغذي نمو الأوعية الدموية، الذي باستهدافه يمكن تثبيط نمو بعض أنواع السرطان مثل سرطان الرئة والقولون والكلى والدماغ.
يقول الدكتور غرين: «يتسابق الأطباء حول العالم في أثناء جائحة كورونا لإنتاج أجسام مضادة وحيدة النسيلة بإمكانها إيقاف فيروس كورونا الجديد. تنقى هذه الأجسام المضادة من بلازما المرضى الذين تعافوا من مرض كوفيد-19، إذ نأمل إيجاد الأجسام المضادة الأكثر فعالية وإنتاجها بكميات كبيرة، وهكذا يتمكن الأطباء من خلق مناعة سلبية مؤقتة إلى أن يشكل الجسم استجابة مناعية ملائمة طويلة الأمد».
تنتج الأجسام المضادة متعددة النسائل من خلايا بائية متعددة، وهي تُعَد مكتبة للأجسام المضادة التي ترتبط بأجزاء مختلفة من المستضد أو الهدف. وتنتج عادة عبر حقن حيوان بمستضد ما، محفزةً بذلك استجابة مناعية، ثم تُستخلَص بلازما الحيوان لإنتاج الأجسام المضادة بكميات كبيرة.
في حين قد تستغرق الأجسام المضادة وحيدة النسيلة 6 أشهر، يستغرق إنتاج الأجسام المضادة متعددة النسائل 4-8 أسابيع، وتتطلب خبرات تقنية أقل، إضافةً إلى أنها تعطي فرصًا أكبر في كشف مستضد معين في اختبارات معينة ما يجعلها أكثر حساسية، لكن من سلبياتها صعوبة إنتاج كميات كبيرة متماثلة منها، إذ ينتج كل حيوان نسقًا مختلفًا.
كيف تُجرى اختبارات الكشف عن الأجسام المضادة؟
تكشف هذه الاختبارات هل أنتج الجسم كميات ملموسة من الأجسام المضادة الخاصة بجزيء معين؟ وتكشف بذلك تعرض الشخص لعدوى فيروس أو جرثوم ما في السابق. وتكشف هذه الاختبارات عادةً الأجسام المضادة من النوعين IgG وIgM.
تكشف الاختبارات الخاصة بفيروس كورونا المستجد جزءًا من بروتينات الأشواك السطحية للفيروس أو كلها، كاشفةً بذلك هل أُصيب الشخص بالفيروس؟
تعطي الاختبارات نتائج إيجابية بعد أسبوعين من التعرض الأول للعامل الممرض، لأن الجسم يستغرق وقتًا لزيادة إنتاج الأجسام المضادة.
لاختبارات كشف الأجسام المضادة نوعان شائعان: اختبار التدفق الجانبي، وقياس الممتص المناعي المرتبط بالإنزيم (ELISA). يتضمن كلاهما تثبيت مستضد ما على سطح وكشف ارتباط أي أجسام مضادة به. ويحدث عادةً تفاعل كيميائي كالفلورة أو تغير اللون عندما يبدأ الجسم المضاد بالارتباط بالمُستضَد. يشبه اختبار التدفق الجانبي اختبار الحمل المنزلي مبدئيًا، إذ يوضع الدم أو المصل على سطح، ورقة عادة. ويعمل اختبار ELISA بمبدأ مشابه، مع اختلاف أن الاختبار يجرى على صفائح دقيقة ويتطلب تقنيًا مخبريًا، ولا تُقرأ النتائج مباشرة.
تنتج الاختبارات الجيدة القليل من النتائج الكاذبة الإيجابية أو السلبية، ولضمان حدوث ذلك يجب على العلماء معايرة أدواتهم، كضمان عدم إعطاء العينات غير المحتوية على المستضد نتائج إيجابية كاذبة، أي اختبار عينات دموية أُخذت قبل انتشار جائحة كورونا مثلًا والتحقق من عدم إعطاء أي منها نتائج إيجابية، ويجب اختبار عينات تحوي الأجسام المضادة بالتأكيد للتحقق من قدرة الاختبار على كشفها.
اقرأ أيضًا:
الأجسام المضادة التي تحمينا من فيروس كورونا لا تستمر إلا بضعة شهور
لماذا لا يضمن وجود الأجسام المضادة اكتساب حصانة ضد الفيروس؟
ترجمة: ليلان عمر
تدقيق: أكرم محيي الدين