الزمن التخيلي. ماذا حدث عند نشأة الكون؟ سيجيب أكثرنا أن ما حدث هو الانفجار العظيم ثم انبثق بعده كل شيء إلى الوجود، هذا الجواب صحيح إلى حد ما، ولكن ما الذي حدث بالضبط في بداية الزمن؟ أو قبله؟ أسئلة كهذه لم تحظ بإجابة من المجتمع العلمي إلى يومنا هذا.
عند النظر إلى الأشياء في بداية الكون، أو حتى قبلها، لا يبدو أي شيء واضحًا، الرياضيات تصبح غامضة، والفيزياء تصبح غير مفهومة، لأن القوانين الفيزيائية البديهية تصبح غير قابلة للتطبيق.
كيف يمكن فهم الكون عند زمن قريب جدًّا من بدايته؟ إن حل المسائل الفيزيائية في هذه المرحلة يصبح صعبًا جدًّا بل مستحيلًا، لأن الاقتراب من بداية الزمن يعني الاقتراب مما يُعرف بالمُفرَدة Singularity.
المفردة -نظريًا- هي الحالة التي كان عليها الكون قبل الانفجار الكبير. عند اقترابنا من المفردة تصبح القوانين الفيزيائية التقليدية غير قابلة للتطبيق، ونظرًا إلى الحاجة إلى تحليل حالة الكون بالقرب من بداية الزمن دون التعامل مع المفردة، قادنا هذا إلى ما يُعرف بالزمن التخيلي imaginary time.
ما هو الزمن التخيلي؟
هو تبسيط رياضي للزمن باستخدام عدة معادلات في ميكانيكيا الكم والنسبية العامة.
عند تمثيل الزمن الحقيقي بخط أفقي، تمثل نقطةٌ تتحرك على هذا الخط لحظةً زمنية، وعلى يسار تلك النقطة الزمن الماضي وعلى يمينها الزمن المستقبل.
لنتخيل الآن خطًا عموديًّا على خط الزمن الحقيقي، يمثل الزمن التخيلي، ولأنه متعامد على خط الزمن الحقيقي، فهو يسمح لكل شيء بالحدوث في نفس الوقت، ولكن لأن الإنسان قادر على استيعاب الزمن في لحظات آنيّة فقط، يصبح فهم الزمن التخيلي صعبًا للغاية.
عند السماح للأشياء بأن تحدث في ذات اللحظة، سنتمكن من تجنب فكرة البداية، فبدون نقطة بداية، يمكن القول إن الزمن التخيلي كان موجودًا دائمًا، ومن ثم لسنا في حاجة إلى تحديد بداية الزمن التخيلي. في الزمن التخيلي لم يحدث انفجار عظيم، ولذلك فعند الاقتراب من بداية الزمن الحقيقي، سيبقى الزمن التخيلي كما هو في أي نقطة أخرى من الزمن. لن تكون الرياضيات أو الفيزياء غامضة أو غير مفهومة، ولن نُضطر إلى المفردة المزعجة.
قد لا يبدو مفهوم الزمن التخيلي مفيدًا أو سهل التصور، ولكنه أداة رياضية مهمة تساعد الفيزيائيين في حساباتهم الفيزيائية حول المفردة.
السؤال الآن: أين نرسم هذا الخط العمودي المعروف بالزمن التخيلي؟ هل نرسمه عشوائيًّا في أي نقطة في الفضاء؟ ليس الأمر بهذه السهولة طبعًا.
كيف نحول الزمن الحقيقي إلى زمن تخيلي؟
تشكل الأبعاد الثلاثة (المكان) مع البعد الرابع (الزمن) زمكان مينكوسكي Minkowski’s spacetime، وبدمج الأبعاد الأربعة، يصبح زمكان مينكوسكي مساحةً يُرسم فيها كل ما يحصل في هذا الكون بواسطة تحديد زمنه وأبعاده المكانية.
من المؤكد أن تصور أربعة أبعاد ليس أمرًا هينًا، لأن المعنى الرياضي للأعداد مفهوم، لكن المعاني الفيزيائية ليست بنفس الوضوح.
كي نستطيع التعامل مع زمكان مينكوسكي، نستبدل به الفضاء الهندسي المعروف بالفضاء الإقليدي Euclidean space، ما يجعل الأمور أسهل.
يحدث الانتقال من فضاء مينكوسكي إلى الفضاء الإقليدي باستخدام دوران ويك Wick’s rotation، وذلك بتحويل الزمن الحقيقي في فضاء مينكوسكي إلى الزمن التخيلي، ويتضمن ذلك رياضيًّا ضرب قيمة الزمن الحقيقي في العدد التخيلي i= √(-1).
بضرب الزمن الحقيقي في العدد التخيلي فإننا ندوّر خط الزمن الحقيقي لينطبق على خط الزمن التخيلي المتعامد معه، أي أننا نحول فضاء مينكوسكي إلى الإقليدي بتدوير محور الزمن، فيصبح لدينا فضاء غير محدود لا وجود فيه للمفردة، ونستطيع حل أي مسألة في زمن قريب من الانفجار العظيم، وبعد ذلك يمكن إعادة استبدال القيم بعكس تحويل ويك، وبذلك نحصل على النتائج في فضاء الزمان والمكان الحقيقيين.
تطبيق الأعداد التخيلية
واجه استخدام الزمن التخيلي رفضًا في المجتمع العلمي، وتحول هذا الرفض إلى حرب استمرت فترة طويلة ضد الأعداد التخيلية، إذ اعتقد كثير من العلماء إنها فكرة سخيفة، فكيف يمثل عدد تخيلي كميةً حقيقية؟
إذا قبلنا بالفكرة، أين سينتهي الخيال؟ هل يمكن تمثيل كل شيء بالزمن التخيلي؟ هل سنصنع عالمًا كاملًا من الخيال؟ هل سيكون مثل بلاد العجائب وتستكشفه فتاة تدعى أليس؟ وهل سنحتاج إلى سبب في الأساس إذ يمكن أن يكون السبب هو الآخر تخيليًّا؟
في الواقع، يشبه الأمر للغاية قصة أليس في بلاد العجائب Alice in Wonderland التي نُشرت عام 1856، ولم يعتقد مؤلفها لويس كارول Lewis Carroll (وهو اسم مستعار للكاتب وعالم الرياضيات والمصور الفوتوغرافي الإنجليزي تشارلز لوتويدج دودجسن Dodgson)، بوجود مبرر لاستخدام الأعداد التخيلية في الرياضيات، واعتبر المفهوم أمرًا غير مسؤول.
إذا عدنا إلى مشهد حفل شاي صانع القبعات Mad Hatter’s tea party في القصة، سنجد أن الزمن غادر الغرفة ليبقى حفل الشاي دائمًا. تخيل دودجسن أن العالم بأكمله يتحول إلى حفل شاي صانع القبعات (أي يصبح أبديًّا) باستخدام الأعداد التخيلية.
يشرح الفيزيائي البارز ستيفن هوكينغ Hawking في كتابه الكون في قشرة جوز The Universe in a Nutshell مصطلح الزمن التخيلي بتعمق، وذكر العديد من النماذج الرياضية التي تحتوي على متغير الزمن التخيلي، وتتوقع هذه النماذج ظواهر يمكن ملاحظتها في الكون، وهو ما يجعلنا نطرح السؤال التالي: إلى أي مدى يكون الزمن تخيليًّا؟
إذا كان بوسع الزمن التخيلي أن يتوقع بعض ظواهر العالم الحقيقي بدقة، ألا يجعله ذلك أكثر من مجرد تبسيطات رياضية؟ يرى هوكينغ إنه علينا أن نعيد النظر في منظورنا للزمن نفسه، فقد يكون الزمن التخيلي حقيقيًّا تمامًا، والسبب هو فهمنا الخطّي المحدود للزمن.
اقرأ أيضًا:
الزمن الكمومي: ما هو الزمن بالضبط؟
ترجمة: إسراء حيدر هاشم
تدقيق: محمد حسان عجك
مراجعة: أكرم محيي الدين
