هل يستطيع البشر تصديق ذكريات طفولتهم؟ أم أنها غير موثوقة بالكامل؟

يملك كل شخص بعض الذكريات من أيام الطفولة، التي تشعل لديه مشاعر الحنين إلى الماضي. مثل أول مرة تعلم فيها ركوب الدراجة، أو أول قفزة في المحيط، أو الأنماط المميزة لورق الحائط الذي أزيل من منزل العائلة منذ وقت طويل. تكون ذكريات الطفولة هذه عادةً غارقةً في كثير من العاطفة، وتكون أيضًا منسوجةً في نسيج هويته وشخصيته الحالية. لكن هل يستطيع المرء رغم ذلك الوثوق بهذه الذكريات؟ بأسلوب آخر، ما مدى دقة ذكريات الطفولة؟

تبين في الوقت الحالي أن صحة هذه الذكريات موثوقة للغاية، خاصةً إذا كانت الأحداث والمواقف التي يتذكرها المرء مخيفة أو مؤلمة.

قرار صعب

أجرت صحيفة لايف ساينس مقابلةً مع كارول بيترسون، وهي طبيبة نفسية للأطفال، وأستاذة مختصة في علم ذكريات الأطفال المبكرة في جامعة جامعة ميموريال بمدينة Newfoundland. قالت فيها إن ذكريات الطفولة ليست معصومةً عن الخطأ، وأن كلًا من الأطفال والبالغين قد يملكون مجموعات من الذكريات غير الصحيحة والموثوقة تمامًا.

وضّحت بيترسون قائلةً: «تعد الذكريات التي تتشكل في جميع الأعمار مرنة، وهي صفة لا تقتصر على الذكريات الباكرة في الحياة فقط. تكون ذكريات البشر عرضةً لأن تتغير بناءً على اقتراحات وذكريات غيرنا في جميع الأعمار. وتُعد نسبة حدوث هذا التغيير رغم ذلك لدى الأطفال الصغار أكبر مقارنةً بأقرانهم الأطفال الكبار أو البالغين».

تشير الأبحاث إلى أن البشر غالبًا ما ينسون بعض الأحداث بسرعة بعد حدوثها، خاصةً إذا كانت مواقف عادية وغير مهمة. وضّح الباحثون في دراسة نشرت عام 2020 في مجلة سيكولوجيكال ساينس أن عدد الذكريات الموثوقة الصحيحة للمرء عن العالم الحقيقي يقل كلما انقضى على حدوثها وقت أطول. تقل دقة هذه الذكريات وتفاصيلها أيضًا مع مرور مزيد من الوقت عليها. مع ذلك، أشار فريق البحث أنه إذا استرجع المشاركون الذكريات بنجاح، فهي غالبًا ما تكون دقيقةً بنسبة 93% إلى 95% في معظم الوقت، وذلك بغض النظر عن الوقت الذي انقضى على حدوثها.

ماذا تعني هذه النتائج من ناحية إثبات صحة ذكريات الطفولة ودقتها؟

أجرت الطبيبة بيترسون وفريقها البحثي مقابلةً مع مجموعة من الأطفال الذين تراوحت أعمارهم بين 4 و13 عامًا فيما يخص ذكرياتهم المبكرة، وأعادت أيضًا إجراء المقابلة بعد عامين من الأولى، وذلك في دراسة نشرت عام 2011 في مجلة تشيلد ديفبلومنت. لاحظ الباحثون أن الذكريات التي تكون ممزوجةً بالعاطفة غالبًا ما تدوم وتستمر وقتًا أطول. ووضحوا إضافةً إلى ذلك أن الأطفال الذين اتصفت ذكرياتهم بالترتيب الزمني والوضوح غالبًا ما يتمكنون من استراجعها بنجاح، وذلك عوضًا عن كون الذكريات عشوائية وغير دقيقة.

أوجد الباحثون أيضًا وجود علاقة قوية بين استرجاع المرء لذكرياته بنجاح والعاطفة المرتبطة بها. تكون الذكريات على سبيل المثال أكثر دقةً ووضوحًا كلما كان الحدث مؤلمًا ومروعًا أكثر.

تدعم دراسة أجريت عام 2015 الفكرة السابقة، إذ أجرى الباحثون فيها مقابلةً مع الأطفال دون سن المدرسة حول إصابتهم البليغة والخطيرة التي تطلبت منهم العلاج والبقاء في المستشفى. تقول بيترسون أن الباحثين أعادوا إجراء المقابلة بعد عشرة أعوام مع المشاركين الذين أصبحوا مراهقين في هذا الوقت حول ما يتذكرونه من الإصابة التي تعرضوا لها في سنوات الطفولة. تواصل فريق البحث أيضًا مع البالغين الذين شهدوا إصابات هؤلاء الأطفال بعد حدوثها بفترة قصيرة لاعتماد كلامهم على أنه الذكرى الدقيقة عن الحدث.

تقول بيترسون في ذلك: «تفاجأ فريق البحث كثيرًا بدقة استذكار المراهقين الملفتة للنظر لتفاصيل الحادثة العاطفية والهامة في طفولتهم».

قد يشكل الناس، خاصةً الأطفال منهم، في بعض الحالات ذكريات كاذبة، أو حتى ذكريات واضحة ودقيقة للغاية عن مواقف لم تحدث قط. يقول الطبيب النفسي الألماني ميكايل ليندن في كتابه الذي نشر عام 2013 بعنوان Hurting Memories and Beneficial Forgetting، أنه قد تؤدي التوقعات الاجتماعية العالية إلى تشكيل ذكريات كاذبة لدى الأطفال الذين تعلموا أن يردوا ويستجيبوا كما هو متوقع منهم. قد تكون هذه الذكريات الكاذبة عالية الدقة وواقعية للغاية، مما يصعب على المرء تفريقها عن الذكريات الحقيقية.

هدفت دراسة سابقة نشرت عام 2011 في صحيفة Medical Hypotheses إلى تفسير سبب حدوث الذكريات الكاذبة. ووضح الباحثون أن العاطفة تلعب دورًا بارزًا في تشكيل الذكريات الكاذبة، إذ أشاروا إلى أن العاطفة والمشاعر قد تغلب أحاسيس عدم اليقين من صحة الحدث وتطغى عليها في الذكريات الكاذبة. لاحظ مؤلفو الدراسة أيضًا أن تأثر المرء باقتراحات غيره وذكرياته قد يلعب دورًا في تشكيل الذكريات الزائفة، وذلك قبل استنتاجهم أن الذكريات الكاذبة هذه تشكل تحديًا لصورة المرء الذاتية لنفسه باعتباره مراسلًا للمواقف الحقيقية التي حدثت معه في الماضي.

تفريق الحقيقة عن الخيال

تتصف الذكريات المبكرة لعدد كبير من الناس بكونها بسيطةً أو سطحية. يكمن السؤال الحقيقي في مدى دقة الذكريات الأكثر هدوءًا، وذلك باعتبار أن الناس يتذكرون الأحداث الممزوجة بالعاطفة تذكرًا أكثر وضوحًا ودقة.

أجرت بيترسون دراسة نشرت عام 2017، طلبت فيها من الأطفال المشاركين الذين تراوحت أعمارهم بين 4 و9 أعوام استرجاع أولى ذكريات طفولتهم، ثم أعادت المقابلة مرة أخرى بعد 8 سنوات واستفسرت عن الذكريات ذاتها. قالت بيترسون في ذلك: «تمكن المشاركون مع بعض التلميحات والمساعدة من استذكار معظم الأحداث، لكن محتوى هذه الذكريات قد اختلف قليلًا».

تقول بيترسون أن الأطفال الذين تراوحت أعمارهم بين 6 أعوام فما فوق في وقت الدراسة الأولية لم يكن محتوى الذكريات لديهم متناقضًا عندما أعادوا استرجاعها مرة أخرى بعد سنوات، لكنها اختلفت عن بعضها بالجوانب التي فضلوا التحدث عنها حينها. أضافت بيترسون قائلة: «تحدث كل من المشاركين عند استذكارهم رحلة تخييم مثلًا عن تفاصيل معينة. ويميل الأطفال الذين ترواحت أعمارهم بين 4 و5 أعوام في المقابلة الأولية إلى استذكار تفاصيل ومعلومات متناقضة مع الواقع وما قالوه في المقابلة السابقة».

أنهت بيترسون كلامها قائلةً أنه من الصعب تحديد ما هو صحيح ودقيق في الذكريات، خاصةً إذا كانت ذكريات تعود إلى الطفولة المبكرة. إلا إذا كان الموقف مسجلًا ويوجد فيديو يثبت صحة الذكرى الحقيقية.

اقرأ أيضًا:

تخزين الذكريات الجديدة يسبب ضررًا لخلايا الدماغ

اكتشاف نوع جديد من الخلايا العصبية يلقي الضوء على تشكل الذكريات

ترجمة: رهف وقّاف

تدقيق: جنى الغضبان

مراجعة: باسل حميدي

المصدر