جاهد العلماء لصياغة تعريف شامل للحياة، هل من المحتمل أنهم لا يحتاجون إليه؟ غالبًا ما يشعر البشر بقدرة غريزية على تمييز الشيء الحي، إلا أن الطبيعة مليئة بالكائنات التي تجعل التصنيف السهل إلى حي أو غير حي يبدو سخيفًا. وربما يزداد التصنيف صعوبةً بعد استكشاف الأقمار والكواكب الأخرى. يناقش الكاتب كارل زيمر جهود العلماء المحبطة في سبيل وضع تعريف شامل للحياة في كتابه المنشور حديثًا بعنوان «هامش الحياة: البحث عن معنى أن تكون حيًا».
سنة 2018 كتب العالم فرانسيس ويستال: «توجد تعريفات للحياة بقدر عدد الأشخاص الذين يحاولون تعريفها».
بوصفي مراقبًا للعلوم والعلماء، أرى هذا السلوك غريبًا، إنه مثل وضع رواد الفضاء تعريفات جديدة للنجوم باستمرار. سألتُ عالم المكروبيولوجيا رادو بوبا، الذي بدأ بجمع تعريفات للحياة منذ أوائل القرن الحالي، عن رأيه في هذا الشأن.
أجاب: «هذا غير محتمل في أي من العلوم، قد تجد علمًا به أكثر من تعريف للشيء ذاته، لكن علم لا يوجد به تعريف لأهم شيء فيه؟ ذلك مرفوض تمامًا. كيف سنناقش الأمر إذا كان تعريف الحياة في اعتقادك يتعلق بالحمض النووي، في حين أعتقد أنه يتعلق بالنظام الديناميكي؟ لا يمكننا خلق حياة اصطناعية لأننا لا نتفق على ماهيتها، ولا يمكننا اكتشاف الحياة على المريخ إذ نعجز عن الاتفاق على ما تمثله هذه الحياة».
وبينما يتخبط العلماء في محيط من التعريفات، يتزاحم الفلاسفة لتقديم العون.
حاول بعضهم حل الخلاف مؤكدين قدرتهم على التأقلم مع هذا الفيض من التعريفات، وقالوا إننا لسنا بحاجة إلى التركيز على تعريف واحد صحيح للحياة، لأن التعريفات العملية جيدة كفاية. مثلما تستطيع ناسا التوصل إلى تعريف يساعدهم على إنشاء أفضل آلة للبحث عن الحياة على الأقمار والكواكب الأخرى، يستطيع الفيزيائيون استخدام تعريف آخر لرسم الحدود غير الواضحة الفاصلة بين الحياة والموت. وفقًا لليوناردو بيش وسارة غرين، لا تتوقف قيمة التعريفات على مدى اتفاق الآراء عليها، بل على تأثيرها في البحث.
يرى فلاسفة آخرون أن التفكير بهذه الطريقة المعروفة بالعملية ليس سوى مهرب فكري. صعوبة تعريف الحياة ليست عذرًا يمنعنا من المحاولة. يرد الفيلسوف كيلي سميث: «أحيانًا لا يمكن تجنب العملية، لكنها ببساطة لن تحل محل التعريف المناسب للحياة».
يحتج سميث ومناهضو العملية بأن تعريفات كهذه تعتمد على ما تتفق عليه مجموعة أشخاص عمومًا، لكن من الصعب التوصل إلى اتفاق. أكّد سميث: «التجربة التي تُجرى دون فكرة واضحة عما تبحث عنه لا تحسم شيئًا».
ناقش سميث أن أفضل ما يمكن عمله هو الاستمرار في البحث عن تعريف للحياة يمثل الجميع، تعريف ينجح عندما تفشل التعريفات الأخرى. تساءل عالم الوراثة الروسي «إدوارد تريفونوف» عن وجود تعريف ناجح مسبقًا يختبئ بين جميع المحاولات السابقة.
عرض تريفونوف عام 2011 نحو 123 تعريفًا مختلفًا للحياة، تكررت الكلمات ذاتها في العديد من هذه التعريفات. حلل تريفونوف البنية اللغوية للتعريفات وصنفها في فئات، ووجد جوهرًا أساسيًا يتوارى بين الاختلافات. استنتج تريفونوف أن كل التعريفات تتفق على شيء واحد، أوجزه بأن الحياة تنسخ نفسها مع تغييرات. وهو ما عبر عنه علماء ناسا حين قالوا: «الحياة نظام كيميائي مكتف ذاتيًا، قادر على اجتياز التطور الدارويني».
لكن جهوده لم تحل القضية. جميعنا -حتى العلماء- نملك قائمة خاصة نصنف فيها الأشياء إلى حية وغير حية، عندما يقدم أحدهم تعريفًا، نتفقد القائمة لتحديد الأشياء التي يشملها هذا التعريف. لم ينل تعريف تريفونوف إعجاب أكثر العلماء، قال عالم الكيمياء الحيوية وي مييرنريتش: «فيروسات الحواسيب تنسخ نفسها مع تغييرات، مع هذا هي ليست كائنات حية».
اقترح بعض الفلاسفة أننا بحاجة أن نفكر بتروٍ أكثر عندما يتعلق الأمر بتحديد معنى لكلمة كالحياة، يجب البدء بالتفكير بالأشياء التي نحاول تعريفها، عوضًا عن البدء بوضع التعريفات، وأن ندعها تعبر عن حقيقتها بنفسها.
يتبع هؤلاء الفلاسفة خطى لودفيغ فيتغنشتاين، الذي ناقش عام 1940 أن الأحاديث اليومية تعج بالمفاهيم التي يصعب تعريفها. مثلًا، كيف نجيب عن سؤال: «ما الألعاب؟».
ستفشل إذا أجبت بقائمة من المتطلبات الكافية والضرورية لمفهوم اللعبة، بعض الألعاب تنتهي بفائز أو خاسر، وبعضها بنهاية مفتوحة. توجد ألعاب تستخدم رموزًا وأخرى بطاقات أو كرات بولينج، يقبض اللاعبون مبلغًا كي يشاركوا في بعضها، وفي أخرى يلعبون للمتعة، حتى أنهم يتورطون في الديون أحيانًا.
رغم وجود كل هذه الأنواع، لا نتعثر أبدًا في الحديث عن الألعاب. تمتلئ متاجر الأطفال بألعاب للبيع، لكن الأطفال لا يحدقون فيها بحيرة، فالألعاب ليست ألغازًا وفقًا لفيتغنشتاين، لأنها تشترك بنوع من التشابه العائلي: «عندما تنظر إليها لن ترى شيئًا شائعًا، بل سترى تشابهًا وعلاقات».
تساءل مجموعة من العلماء والفلاسفة في جامعة لوند السويدية: هل الأفضل الإجابة عن سؤال «ما الحياة؟» بنفس الطريقة التي أجاب فيها فيتغنشتاين عن سؤال «ما الألعاب؟». عوضًا عن وضع قائمة صارمة من السمات المطلوبة، ربما يمكن إيجاد تشابه عائلي يربط الأشياء معًا في فئة نسميها الحياة.
سعى العلماء لذلك بمساعدة دراسة استقصائية أجراها علماء وطلاب آخرون. إذ رتبوا قائمة ضمت البشر والدجاج ورخويات الأمازون والجراثيم والفيروسات وندف الثلج، ومع كل عنصر مشارك، قدم فريق لوند مجموعة من المصطلحات شائعة الاستخدام للإشارة إلى الكائنات الحية، مثل الحمض النووي والنوع والاستقلاب.
تفقد المشاركون كل المصطلحات التي اعتقدوا أنها مطابقة لعنصر ما. مثلًا، تمثل ندف الثلج نوعًا لكنها لا تقوم بالاستقلاب، وتقوم خلية الدم الحمراء عند البشر بالاستقلاب لكنها لا تملك حمضًا نوويًا.
استخدم فريق لوند تقنية إحصائية تسمى التحليل الجمعي لمراقبة النتائج، وجمع المواد معًا استنادًا إلى التشابه العائلي. نحن البشر ننتمي إلى مجموعة تضم الدجاج والفئران والضفادع، أي الكائنات التي تملك أدمغة. تملك رخويات الأمازون أدمغة أيضًا، لكن التحليل الجمعي وضعها في مجموعة منفصلة غير بعيدة عن مجموعتنا، لأنها لا تتكاثر بذاتها، ما يبعدها قليلًا عن مجموعتنا. وجد العلماء مجموعة تضم عناصر تفتقر إلى الأدمغة مثل النباتات والجراثيم ذاتية التغذية، تضم مجموعة ثالثة كريات الدم الحمراء وخلايا أخرى شبيهة لا تستطيع العيش بمفردها.
أبعد مجموعة عنا ضمت الأشياء التي لا تُعد حية عادةً. ضمت مجموعة الفيروسات والبريونات، وضمت أخرى ندف الثلج والطين ومواد لا تتكاثر بطريقة حية.
استنتج فريق لوند أن بمقدورهم تصنيف الأشياء إلى حية وغير حية دون التورط في جدل حول التعريف المثالي للحياة. واقترحوا أنه يمكن إطلاق صفة الحية على المادة عندما تمتلك عددًا من الخصائص المرتبطة بالكائن الحي، دون أن تتمتع بكل الخصائص أو أن تمتلك مجموعة خصائص محددة موجودة في كائنات أخرى، لأن التشابه العائلي كافٍ.
كارول كليلاند، التي اتخذت موقفًا متطرفًا للغاية، تعتقد أنه لا جدوى من البحث عن تعريف للحياة أو حتى تعريف بديل مناسب، وأصرت على أن ذلك يضرّ بالعلم، لأنه يمنعنا من الوصول إلى فهم أعمق لما يعنيه كوننا أحياء. تعترض كليلاند على التعريفات بشدة لدرجة أدت إلى اعتراض بعض زملائها الفلاسفة على موقفها. وصف كيلي سميث أفكار كليلاند بالخطيرة.
كتبت كليلاند سنة 1997: «تُعد فرضية الحياة على المريخ مرشحًا جيدًا بوصفها الشرح الأفضل للخواص الكيميائية والبنيوية للنيزك المريخي». وهو صخرة من المريخ سقطت في أنتاركتيكا واقترح العلماء أنها تحوي أحافير تعود إلى حياة ميكروبية قديمة من المريخ.
طورت كليلاند لاحقًا حجة فلسفية لما يجب أن يكون عليه علم الأحياء الفلكي، ولاحظت بوصفها فيلسوفة الخطأ الذي اقترفه العلماء. لم يتعلق الخطأ بالسمات المحددة أو نقطة فلسفية يفهمها علماء المنطق فقط، بل كان خطأً جوهريًا يقف في طريق العلم. شرحت كليلاند الخطأ في بحث عام 2001، وسافرت إلى واشنطن لتقديمه في اجتماع الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم، وقفت أمام جمهور أكثره من العلماء قائلة إنه لا جدوى من البحث عن تعريف للحياة.
رأي البعض في حديثها شيئًا من الصحة، وتعاونت مع فريق من علماء الأحياء الفلكية لاكتشاف الآثار المترتبة على أفكارها.
لا تتعلق المشكلات التي واجهت العلماء في تعريفهم للحياة بالسمات المميزة للحياة كالتطور أو التوازن، بل بطبيعة التعريفات ذاتها. الأمر الذي نادرًا ما يأخذه العلماء في الحسبان. كتبت كليلاند: «التعريفات ليست الأدوات المناسبة للإجابة عن السؤال العلمي: ما الحياة؟».
تنظم التعريفات مفاهيمنا، تعريف العازب مثلًا، بوضوح هو الرجل غير المتزوج، إذا كنت رجلًا وغير متزوج فأنت عازب، لا يكفي أن تكون رجلًا لتكون عازبًا. أما معنى أن تكون رجلًا فهو أمر أعقد، للزواج تعقيده الخاص أيضًا. يمكننا أن نعرف العازب دون أن نعلق في هذه الفوضى، تربط الكلمة المفهومين السابقين تحديدًا، لا يمكننا مراجعتهم بالتحقيق العلمي لأن دور التعريفات مُقيد. ببساطة، لا يوجد وسيلة لنعرف هل تعريفنا للعازب بأنه رجل غير متزوج خاطئ؟ الحياة شيء مختلف، ليست شيئًا يمكن تعريفه ببساطة بربط مفاهيم ببعضها.
وعلى هذا ليس مجديًا أن نبحث عن قائمة الخصائص التي تشكل التعريف الحقيقي للحياة. تقول كليلاند: «لا نريد معرفة ما تعنيه كلمة الحياة لنا، بل أن نعرف ماهية الحياة، وعلينا أن نتوقف عن البحث عن تعريفها إذا أردنا تحقيق مرادنا».
اقرأ أيضًا:
ما هو علم التخلق أو علم ما فوق الجينات؟
ترجمة: حيدر بوبو
تدقيق: سماح عبد اللطيف
مراجعة: أكرم محيي الدين