كان اكتشاف أن الأجسام ذات الحجم دون الذري يمكن أن تسلك سلوك الموجات أو الجسيمات بالتبادل، وبحسب الظروف، إحدى أهم السمات وأكثرها إثارة للصدمة في فيزياء القرن العشرين.
تسربت الأفكار من الفيزياء الكمومية إلى الأفكار الشعبية على مدى العقود الأخيرة بطريقة غير مسبوقة.
مع ذلك، في حين تنتشر الدعابات عن قطة شرودنغر أو مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج على وسائل التواصل، فالفيزياء المبنية عليها هذه النكات تحظى بشهرة أقل. تُعد ازدواجية (الموجة-الجسيم) واحدة من تلك الركائز الأساسية.
تُخصص مناهج الفيزياء بضعة أسابيع فقط لتقديمها، لكن لا تزال هناك جوانب مهمة يمكن تناولها في مقال قصير.
نبذة تاريخية:
في عالمنا اليومي أو تجربتنا، تختلف الموجات عن الجسيمات اختلافًا كبيرًا.
من أهم الموضوعات الجدلية في فيزياء القرن السابع عشر هو: هل يتكون الضوء من موجات أو جسيمات؟
تتكون أمواج المحيط مثلًا من أعداد هائلة من الذرات، يُفترض أنها جزيئات، مع ذلك نفترض أنا ما نراه يتكسر أمامنا على الشاطئ هو (موجة).
كان من المفترض أن تكون الأشياء المبهمة بالنسبة إلينا، مثل الضوء، هو أحد أمرين، حتى وإن اختلف عملاقان مثل نيوتن وهيجنز حول ما هي الموجة.
أظهر توماس يونغ، بخلاف الآخرين، بعض خصائص الموجات في الضوء، مع بدايات القرن التاسع عشر.
في المثال التقليدي الذي طرحه يونغ، يمر الضوء المسلط على فجوة ضيقة لينتثر على الجانب الآخر، تمامًا كما تفعل موجة المحيط عند اصطدامها برؤوس ضيقة تحيط بخليج أوسع.
أما الجسيمات التي تواجه مثل هذا الانسداد، فإما أن ترتد، وإما أن تسلك طريقها خلال الأجسام دون أن تتناثر.
حتى تلك الجسيمات التي تصطدم بالحافة، مثل كرة القدم التي ترتطم بعارضة المرمى، ستستجيب بشكل مختلف عن الضوء كما لاحظه يونغ.
بدا أن القضية قد حُلّت، وهي حالة نادرة أن يخسر نيوتن نقاشًا علميًا، حتى بعد وفاته.
الطريقة التي ينحني بها الضوء في أثناء عبوره من وسط لآخر تتوافق أيضًا مع سلوك الموجات، بعكس ما تفعله الجسيمات.
إلا أنه في بداية القرن العشرين، أظهر كل من ماكس بلانك وألبرت أينشتاين أن بعض الملاحظات غير القابلة للتفسير، قد تكون منطقية إذا سلك الضوء سلوك الجسيم في ظروف معينة.
رغم غرابة الأمر، كان هذا هو السبب الرئيسي لحصول أينشتاين على جائزة نوبل عام 1921، وهو موضوع أقل إثارة للجدل مقارنةً بالنظرية النسبية.
عام 1923، أثبت أرثر كومبتون أن الأشعة السينية التي تصطدم بالإلكترونات تنقل الزخم مثل الجسيمات.
لكن الأشعة السينية هي مجرد شكل من أشكال الإشعاع الكهرومغناطيسي الذي يتمتع بطاقة أعلى -أي أن طوله الموجي أقصر- من الضوء المرئي.
لا يتحول الضوء ببساطة من كونه موجة إلى جسيم عند مدى معين من الطاقة، بل تُبدي الحزمة الضوئية، بصرف النظر عن الطاقة، سلوكًا مشابهًا لكل من الموجة والجسيم.
إما موجة وإما جسيم، أم الاثنان معًا؟
نعلم الآن أن الفوتونات التي تشكل الضوء ليست موجات مثل أمواج المحيط، بدلًا من ذلك، ما نراه يُعرف الآن باسم (التابع الموجي).
يتصرف الفوتون كما لو كان من المحتمل أن يوجد في أي مكان ضمن مجموعة من الأماكن، مع احتمالات متفاوتة.
وبدلًا من أن يكون نقطة واحدة، فإنه يتصرف، ويتفاعل مع أشياء أخرى، كما لو كان ممتدًا ومنتشرًا مثل موجة من المكونات الأصغر حجمًا.
مع ذلك، قد تؤدي الظروف إلى انهيار هذا التابع الموجي ليصبح شبيهًا بالجسيم، ليتأكد وجوده في نقطة واحدة.
إذا كان يصعب عليك استيعاب هذا، فلا تقلق، فقد عانت منه أعظم العقول في النصف الأول من القرن العشرين، ويمكن القول أنه حتى اليوم، يتظاهر أناس ببساطة أنهم يستوعبونها حقًا.
كان الأمر معقدًا، أن شيء ما كنا نستكشفه مؤخرًا يتصرف بمثل هذه الطرق التي تتحدى المنطق. لكن سرعان ما تعلم علماء الفيزياء أن الإلكترونات، التي كانت تعد سابقًا جسيمات، يمكنها أيضًا أن تسلك سلوك الموجات عندما تكون الظروف مواتية.
تمامًا كما أثبت يونغ أن الضوء يتصرف مثل موجة بتسليطه على الشقوق ومراقبة المسار على الشاشات في الخلف، تبين أن إطلاق الإلكترونات على شقين يُنتج تشكلات تشبه الموجة على الجانب الآخر.
لن تكون هذه التشكلات ممكنة ببساطة إذا كان للإلكترونات بنية جسيمية بحتة.
بعبارة أخرى، لا يمكن الاعتماد على شيء هو حرفيًا جزء من جوهرنا، وكل ما يحيط بنا، ليكون صلبًا، ويتحول إلى محاكاة لموجة عندما تناسبه الظروف.
من هنا، كانت خطوة صغيرة لاكتشاف أن المكونات الأخرى للمادة، البروتونات والنيوترونات، تظهر الثنائية ذاتها، وإن كان يصعب إثباتها.
أُجريت تجارب أعقد، وجميعها تؤكد أنه يمكن للكيانات الصغيرة جدًا أن تتخذ خصائص الموجة أو الجسيم حسب الظروف.
الأمر لا يقتصر على الجسيمات الفردية، فالذرات المكونة من العديد من البروتونات والنيوترونات، تبدي أيضًا سلوكًا موجيًا، مثل التداخل والالتواء في الظروف المناسبة، وكذلك الجزيئات، على هذا، فيمكن لكل الأشياء أن تكون موجة.
التداعيات
نحن لا نختبر ازدواجية (الموجة-الجسيم) مباشرةً، لأن الأجسام الأكبر حجمًا لها تابع موجي أصغر.
يحدد مبدأ عدم اليقين لهايزنبرغ علاقة عكسية بين التراكم الحركي المتكاثف (الزخم) للجسم، ومدى تابعه الموجي.
ينكمش التابع الموجي في ظروف السرعة الضئيلة، ويزداد التراكم الحركي المتكاثف أيضًا، ويتضاءل معه عدم اليقين بشأن موقع الجسم.
أي جسم تقريبًا، كبير بما يكفي لرؤيته، له تابع موجي صغير جدًا لدرجة أننا لا نستطيع قياسه، فضلًا عن رؤيته.
لكن ثم استثناءات. تكاثفات بوز-أينشتاين هي مجموعات من الذرات، أحيانًا بأعداد كبيرة جدًا، تتصرف مثل جسيم دون ذري، ما يسمح لهذه المجموعات بالتفاعل مثل الأمواج.
إذ إن الذرات الموجودة في التكاثف لها تماسك كمي، وهذا لا ينطبق على الأشياء المعتادة.
لكن نظرًا إلى أن صنع تكاثف بوز-أينشتاين يتطلب تبريد الذرات إلى درجة الصفر المطلق تقريبًا (°273- درجة مئوية)، لا نصادف هذه الدرجة خارج المختبر، ولا حتى في صباح شتوي شديد البرودة.
هذا لا يعني أن ازدواجية موجة جسيم لا يمكن أن تؤثر فينا. تجربة قطة شرودنغر هي تجربة ذهنية مجردة تهدف إلى إظهار كيف يمكن لمثل هذه الازدواجية في جسم مجهري أن تمتد إلى العالم العياني.
مع أن الفرضية قد اقتُرحت في الأصل لإثبات أننا نسيء فهم السلوك الكمي دون الذري، فنحن الآن واثقون أننا نملك هذا الحق على نطاق ضيق جدًا.
أما كيفية تشكّل ما نختبره، مثل هذه السلوكيات الكمومية، فهو أمر ما زال قيد البحث.
نظرًا إلى أن العديد من التقنيات تعتمد على الجسيمات دون الذرية أو الفوتونات التي تُظهر ازدواجية جسيم موجة، فإننا لسنا بحاجة إلى قططنا أو ملابسنا أو زملائنا لإظهار سلوك شبه موجي، كي تتمكن الازدواجية من تشكيل حياتنا.
اقرأ أيضًا:
هل الضوء موجة أم جسيم؟ الطبيعة المزدوجة للضوء
ترجمة: سليمان عبد المنعم
تدقيق: أكرم محيي الدين