يعدّ الخبير المالي في وول ستريت لويس شتراوس الذي ترك الجامعة وعمل ببيع الاحذية، أحد أهم مستشاري الطاقة الذرية في أمريكا خلال الحرب الباردة. واشتهر بدوره في السقوط الدراماتيكي للفيزيائي والمطور الرئيسي للقنبلة الذرية روبرت أوبنهايمر.
اتخذ شتراوس مسارًا غير متوقع للوصول إلى موقعه في السياسة الذرية.
وُلد عام 1896 في فرجينيا الغربية، وبزغ اهتمامه في الفيزياء أول مرة في صباه حينما استخدم شوكة رنانة لإحداث موجات في وعاء من الزئبق في أثناء انتظاره طبيب الأسنان لعلاج أسنانه، ثم انغمس في الكتب حول الإشعاع وميكانيكا الموجات في المدرسة الثانوية، لكن أحلامه بدراسة الفيزياء في الجامعة بعد التخرج تلاشت، إذ انهار عمل والده في تجارة الأحذية.
جرَّ لويس شتراوس مختلف صناديق الأحذية عبر الجنوب الشرقي بائعًا متجولًا بدل حمل الكتب المدرسية، إلى أن تطوع للمساعدة في حملات الإغاثة في الحرب العالمية الأولى التي قادها هربرت هوفر.
اعتبر شتراوس أن تأدية دور في إطعام الجياع وكسوة العراة في بلجيكا وشمال فرنسا يعني تأدية دور في التاريخ. فأثار شتراوس إعجاب هوفر لدرجة أنه عُيّن سكرتيرًا شخصيًا له قبل أن ينضم إلى شركة مصرفية استثمارية في نيويورك في العام 1919 ويكسب لاحقًا أكثر من مليون دولار سنويًا.
أنشأ شتراوس صندوق تمويل لاستخدام الراديوم في علاج السرطان بعد وفاة والديه بسبب السرطان. عمّق هذا العمل الخيري علاقاته مع علماء الفيزياء الذين عملوا على اكتشاف الانشطار النووي ثمَّ برز شتراوس في طليعة البرنامج النووي الأمريكي للحرب الباردة بعد عمله في وظائف إدارية مع البحرية الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية.
دعم شتراوس تطوير قنبلة هيدروجينية في الولايات المتحدة:
عين الرئيس هاري ترومان في العام 1946 لويس شتراوس أحد المفوضين الخمسة الأوائل للجنة الطاقة الذرية (AEC) المنشأة حديثًا التي سيطرت على البرنامج النووي الأمريكي من مشروع مانهاتن.
تعدّ لجنة الطاقة الذرية فريق بحث وتطوير عالي السرية لصنع أول قنبلة ذرية أمريكية في زمن الحرب.
حث شتراوس البنتاغون على إنشاء نظام مراقبة الغلاف الجوي الذي اكتشف بنجاح أول اختبار قنبلة ذرية أجراه الاتحاد السوفيتي في غضون أيام من تفجيرها في أغسطس 1949.
نظرًا إلى كون الولايات المتحدة لم تعد القوة النووية العظمى الوحيدة في العالم، دعم شتراوس بقوة برنامجًا ضخمًا لتطوير «قنبلة نووية حرارية فائقة» أقوى 1000 مرة من القنابل الذرية التي أُلقيت على هيروشيما وناغازاكي.
أشار شتراوس أنه قد حان الوقت الآن لقفزة نوعية في التخطيط، وأنه يفكر في مثابرة على صعيدي المال والموهبة يمكن مقارنتها بالمثابرة الذي أنتجت أول سلاح نووي. إذ هذا هو السبيل للبقاء في المقدمة.
قوبل دعم شتراوس للقنبلة الهيدروجينية بمعارضة شديدة من الفيزيائي روبرت أوبنهايمر رئيس المجلس الاستشاري العام في لجنة الطاقة الذرية الذي قاد مشروع مانهاتن في لوس ألاموس، نيو مكسيكو. خوفًا من أن القنبلة الهيدروجينية ستسرّع سباق التسلح الخطير لأغراض الحرب الباردة، ودعى أوبنهايمر إلى المزيد من الانفتاح حول حجم الترسانة النووية الأمريكية وقدراتها، لكن شتراوس اعتقد أن ذلك سيخدم السوفييت فقط.
نجح شتراوس في الضغط على ترومان الذي أعلن للعامة عن قراره بتطوير القنبلة الهيدروجينية في 31 يناير 1950، وبعد أقل من 3 سنوات فجرت الولايات المتحدة أول قنبلة هيدروجينية في العالم، ليحذو السوفييت حذوها بعد 10 أشهر.
بعد مغادرة شتراوس لجنة الطاقة الذرية في عام 1950، عاد إلى الحكومة عندما عينه الرئيس المنتخب حديثًا دوايت أيزنهاور مستشارًا للطاقة الذرية في فبراير 1953، عندها تحصّل على سلطة كبيرة، إذ كان متبرعًا رئيسيًا لحملة ايزنهاور الرئاسية، وطالب كافة الوكالات الفيدرالية الإفصاح له عن أنشطتها المتعلقة بالطاقة الذرية. ثم بعد أشهر طلب أيزنهاور من لويس شتراوس رئاسة لجنة الطاقة الذرية، وعلّق شتراوس قبوله بشرط ألا يعمل أوبنهايمر مستشارًا في اللجنة.
دبّر شتراوس إدراج أوبنهايمر على القائمة السوداء:
بعد أن عين لويس شتراوس أوبنهايمر مديرًا لمعهد الدراسات المتقدمة في عام 1947، تدهورت علاقتهما بسرعة، إذ اعتبره أوبنهايمر دخيلًا وسخر من معارضته لعملية الانتفاع من النظائر المشعة لأغراض طبية خلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ الأمريكي ما سبب غضب شتراوس.
يتذكر رئيس لجنة الطاقة الذرية ديفيد ليلينثال أنه كانت هناك نظرة كراهية على وجه شتراوس نادرًا ما تُرتسم على وجه رجل.
لم ينسَ شتراوس الاستهزاء بسهولة. ذكر أحد الزملاء أنه يمتلك الكثير من العلاقات، فأمر بإزالة الوثائق السرية من مكتب أوبنهايمر في غضون أيام من أدائه اليمين الدستورية رئيسًا للجنة الطاقة الذرية، وكان مصممًا على إثبات أن “والد القنبلة الذرية” لم يعد بطلاً قوميًا بل كان تهديداً للأمن القومي.
شكك لويس شتراوس في وطنية أوبنهايمر وسط هستيريا معاداة الشيوعية التي سببتها المكارثية، وجلسات استماع السيناتور جوزيف مكارثي لفضح الشيوعيين المشتبه بهم في الحكومة الفيدرالية.
على الرغم من أن أوبنهايمر لم ينضم رسميًا إلى الحزب الشيوعي، لكنه انجذب إلى القضايا السياسية اليسارية وكان لديه أصدقاء مقربون وأفراد من العائلة أعضاءً في الحزب خلال أوقات مختلفة. اعتقد شتراوس أن الفيزيائي ربما عارض القنبلة الهيدروجينية وأخفى المحاولات السوفيتية للتسلل إلى مشروع مانهاتن لأنه كان عميلًا أجنبيًا.
وفقًا لكتاب «بروميثيوس الأمريكي: الانتصار ومأساة روبرت أوبنهايمر» لمارتن شيروين وكاي بيرد، استخدم شتراوس معارفه في الإعلام لنشر قصص تشهيرية عن أوبنهايمر. بعد أن ضغط على إدغار هوفر مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI لمراقبة أوبنهايمر، تتبعه المكتب وتنصت على هاتفه بشكل غير قانوني، ثمَّ أثار لويس شتراوس الشكوك حول إمكانية الوثوق بأوبنهايمر بعد أن اكتسب انتباه الرئيس أيزنهاور. ووصلت رسالة كتبها أحد المقربين من شتراوس إلى الرئيس تعلن أنه يُرجّح أن روبرت أوبنهايمر هو عميل تابع للاتحاد السوفيتي.
في ديسمبر 1953، أبلغ لويس شتراوس أوبنهايمر أنه قد جُرّد من تصريحه الأمني، لكن أوبنهايمر استأنف القرار أمام هيئة مؤلفة من 3 أعضاء، واستمرت جلسة الاستماع طوال شهر أبريل من العام 1954. بعد محاكمة منحازة مُنع فيها محامو أوبنهايمر من الوصول إلى الملفات السرية، أقرت الهيئة إخلاص أوبنهايمر للوطن، لكنها صوّتت بأغلبية صوتين مقابل صوت لإلغاء تصريحه الأمني.
سبّب هذا القرار انهيار سمعة أوبنهايمر، وذكر صديقه المقرب وزميله الفيزيائي إيزيدور آيزاك رابي أنه كان علمًا ورجلًا مسالمًا، لكنهم دمروه.
بعد 5 سنوات دفع لويس شتراوس ثمن إدراج أوبنهايمر في القائمة السوداء، فعندما رشحّه أيزنهاور وزيرًا للتجارة الأمريكية، رفض مجلس الشيوخ ترشيحه بعد جلسة تعيين مريرة كان لمعاملته لأوبنهايمر دور حاسم.
كان شتراوس هو المرشح ثامن مرشح لمجلس الوزراء يفشل في الحصول على تعيين في تاريخ الولايات المتحدة، والوحيد بين عامي 1925 و1989 الذي.
ركز لويس شتراوس على المشاريع الخيرية بعد الهزيمة حتى وفاته في العام 1974.
اقرأ أيضًا:
من هو روبرت أوبنهايمر «أبو القنبلة الذرية»؟
ترجمة: صفا روضان
تدقيق: فاطمة جابر