لورنس كراوس حاضرون في فجر الزمن غالباً ما تكون صور الأطفال مملة للجميع عدا الأهل الذين يقومون بعرضها. لكن ما الذي سيكون قادراً على إلهام مخيلتك ما لم تقم بذلك صورة للكون حين كان “طفلاً”؟ قامت وكالة الفضاء الأوروبية مؤخراً بإصدار أولى الصور المفصّلة للفضاء بأكمله, وهي صور مأخوذة من المهمة الفضائية (بلانك – Planck), أحدث الأقمار الصناعية التي تقوم بسبر الوهج الذي عقب الانفجار العظيم.
نقصد بذلك الوهج الإشعاع الذي يأتينا من جميع الاتجاهات وذلك منذ كان عمر الكون 380 ألف سنة فقط, حالما تبرّد بشكل يسمح للبروتونات بالتقاط الكترونات لكي تشكل ذرة الهايدروجين المتعادل كهربائياً, عندها أصبح الكون شفافاً, ولم يعد هناك ما يعيق سفر الخلفية الحرارية للإشعاع باتجاهنا حتى اللحظة.
مر ما يقارب 13.7 مليار سنة وتبرّد هذا الإشعاع ليعلو الصفر المطلق بثلاث درجات وليصلنا على شكل موجات صغريّة. في الواقع, وبالنسبة لمن يبلغون من العمر ما يكفي لتذكر التلفاز قبل البث الرقمي, تمتلئ الشاشة بضجيج أبيض – White Noise/Static – عند انتهاء بث القنوات التلفزيونية, ويكون إشعاع الانفجار العظيم المذكور سابقاً مسؤولاً عن ما يقارب الواحد بالمائة من ذلك الضجيج.
على الرغم من ذلك, بقيت تلك الإشارة مخبأة إلى أن تم اكتشافها عن طريق الصدفة في العام 1965 من قِبل (روبرت ويلسون – Robert Wilson) و (آرنو بينزياس – Arno Penzias), حيث ربحا جائزة (نوبل) مناصفة عن ذلك الاكتشاف الذي أكد أصل الكون متمثلاً بالانفجار العظيم.
بسبب البرود الشديد لذلك الإشعاع, استغرق إطلاق قمر صناعي في الفضاء من قِبل (ناسا) ما يقارب ثلاثين عاماً – وذلك للابتعاد عن الخلفية الحرارية الناتجة عن الأرض وعن امتصاص غلافنا الجوي للإشعاع الكوني – لرفع حساسيته بدرجة كافية حيث يصبح بإمكانه أخذ صورة عن تلك الإشارة. صرّح (جورج سموت – George Smoot) الذي شارك (جون ماذر – John Mather) بجائزة (نوبل) عن عمله هذا بأنّ النظر إلى تلك الصورة يشابه النظر في “وجه الإله”.
لعله من الممكن مسامحة هذا القدر من الغلوّ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الحماس الناجم عن ذلك الاكتشاف, لكن أياً كان التركيب الذي ادّعى (سموت) رؤيته, فلن يكون مختلفاً عن عادتنا في البحث عن أشكال حيوانات في الغيوم, فبالكاد كانت حساسية التجربة حينئذ كافية لفصل الإشارة موضوع البحث عن خلفيات عشوائية أخرى استقبلها جهاز الرصد.
مرت عشرون سنة وأعطانا (بلانك) صورة متقنة عالية الحساسية, ظهرت في تفاصيل تلك الصورة “بقعاً ساخنة” وأخرى “باردة” على كامل تلك الخلفية, وتمثل تلك البقع اختلافاً في درجات الحرارة لا يتعدى جزءاً من عشرة آلاف جزء (1/10000) من الدرجة الواحدة. على الرغم من كون تلك التقلبات ضئيلة للغاية إلا أنها تعكس وجود فائض طفيف من تجمعات المادة التي من شأنها أنْ تنمو في وقت لاحق بفعل الجاذبية لتشكل جميع البنى التي نشاهدها اليوم من مجرات ونجوم وكواكب وكل ما فيها.
السؤال الأكثر أهمية هو “من أين أتت تجمعات المادة تلك؟”. لعل هذا السؤال الأكثر إثارة على الإطلاق, ذلك لوجود العديد من الأسباب التي تجعلنا نظن بأنها – التجمعات – تعود إلى وقت سبق 380 ألف سنة بعد الانفجار العظيم بكثير, ولربما تكون قد تكونت بعد جزء من مليون مليار مليار مليار جزء من الثانية من بداية عمر الكون. في هذه الحالة, ستمثل تلك التجمعات إشارة تعود إلى لحظة بدء الزمن بحد ذاتها تقريباً.
لطالما سُحرنا بالأسئلة الكونية وذلك منذ أصبح البشر بشراً, كيف بدأ الكون؟ من أين أتينا؟ هل نحن وحدنا؟ قد لا ينجم عن محاولة الإجابة على تلك الأسئلة صنع طائرة أسرع أو محمصة خبز أفضل, لكنّ قيام العلم الحديث بالكشف عن جوانب من كوننا تقوم بتغيير منظورنا لتلك الأسئلة الكونية الأساسية, لابد أنْ يكون أمراً رائعاً.
يغير العلم طريقة تفكيرنا في نفسنا وفي مكانتنا ضمن الكون – كما هو حال الفن العظيم, والموسيقى, والأدب -. يوازي ذلك بالنسبة لي أهمية الإنجازات التكنولوجية الرائعة التي أحدثها العلم والتي تجعل عالمنا الحالي ممكناً.
من المبكر للغاية الجزم بماهية التغيرات الجديدة التي قد تنجم عن بيانات (بلانك). عند مقارنة تلك البيانات بنتائج أخرى أقدم, يبدو أنها تقترح عمراً أكبر بقليل للكون, وقد يكون بعمر 13.8 مليار سنة عوضاً عن 13.7 مليار سنة.
هناك حالات شاذة مثيرة للفضول, كما هو الحال في جميع البيانات التي تمس حافة قدرتنا على الرصد. يبدو أنّ نصف الكرة الشمالي من الفضاء يمتلك بقعاً ساخنة وبقعاً باردة أكبر حجماً من تلك الموجودة في نصف الكرة الجنوبي, كما توجد بقعة باردة محددة تبدو في غير محلها وتقع في النصف الشمالي . هل هذا أمر ذو أهمية تذكر, ويمثل خصائص جديدة للكون اليافع, أم أنه مجرد حادث كوني؟
إذا ما أتخذنا التاريخ دليلاً, ستختفي معظم تلك الحالات الشاذة. تمثل تلك الحالات جانباً مشؤوماً من جوانب العلم, علماً أنه لا تتم غالباً الإشارة إلى أنّ معظم الحالات الشاذة في التجارب تميل إلى التلاشي, كما في حال معظم الأفكار النظرية والتي يتضح خطأها في نهاية المطاف.
بدلاً من التسليم بنتائج قد تكون غريبة, تكمن مهمة العلم في محاولة إثبات بطلانها قبل أن نمضي إلى الأمام. الشكوكية هي المهنة الرائجة هذه الأيام, ومن الحكمة أن تتذكر ذلك في المرة القادمة التي تقرأ فيها اكتشافاً مذهلاً زعمت به وسائل الاعلام.
مع ذلك, عند فتح نافذة جديدة في علم الكون, أندهش عادة عند عدم اندهاشي. مخيلة الطبيعة تفوق بأشواط تلك الخاصة بنا, ولذلك, إذا ما أردنا تعلم المزيد عن الطبيعة والاقتراب أكثر فأكثر من الإجابة على تلك الأسئلة الكونية, سنحتفظ بالشجاعة والصرامة اللازمتين لسبر الطبيعة على أصغر المستويات وعلى أضخمها.
أتوقع أننا لن نصل قطّ إلى إجابات على جميع الأسئلة الأساسية التي تراودنا, فكل نتيجة نصل إليها تُنتج أسئلة جديدة. لكن العيش في زمن كزمننا, حيث نقوم باستكشاف عوالم الطبيعة التي كان يُظن في السابق أنها حكراً على الفلسفة أو اللاهوت, يُعتبر بالنسبة لي أمراً مثيراً بشكل لا يوصف.
عند النظر في كوننا الفسيح, يظهر أنّ وجودنا بحد ذاته قد يكون نزوياً وأقل أهمية مما اعتقدنا سابقاً. لكن لا يجب أنْ يكون ذلك سبباً لليأس, وإنما مصدراً للروع والدهشة.
تبقى الحقيقة أغرب من الخيال, حيث تذكّرنا الصور الجديدة للكون “الطفل” بذلك, كما أنها تجعلنا دوماً مستعدين للانذهال.
– لورنس كراوس Lawrence M. Krauss
المصدر: http://www.nytimes.com/