من المعروف أن معظم الناس لن يصبحوا مشاهير، ولا حتى لدقائق، لكن بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، أخذت احتمالية الحصول على الشهرة تدنو من متناول الناس، وغدا الوصول إلى الجمهور أسهل من ذي قبل. يجد كثير من الناس الشهرة مجرد أمنية بعيدة المنال. والسؤال: لم ينجذب الناس إلى الشهرة؟
لا تتطابق الرغبة في الشهرة مع الرغبة في إتقان أمرٍ ما، مثل امتلاك صوت غنائي جذاب، أو ضرب كرة بيضاء صغيرة بعصا طويلة، أو حتى اكتساب الخبرة في مجال غير ترفيهي. ليس الأداء الاحترافي الهدف الحقيقي لكثير من الناس الراغبين بالشهرة، بل الدافع هو الهتاف والتصفيق الذي سيتلقونه من أعداد هائلة من الغرباء عندما يؤدون شيئًا احترافيًا. ليس ما يغريهم الركض واجتياز القاعدة تلو الأخرى لإحراز تقدم في لعبة كرة القاعدة، أو الوصول إلى نوتة سي في غناء الأوبرا، ففي رأيهم تعني تلك الإنجازات المزيد من تشجيع الجمهور، وأن يعرفهم الناس في الأماكن العامة. لهذا، يظهر الكثير من الناس على يوتيوب، ومنهم الأطفال، ساعين لأن يُشاهَدوا، بصرف النظر عن قيامهم بأي شيء مميز.
في بداية التسعينيات، قاد تيم كاسر سلسلة من الدراسات عن قيم الناس وأهدافهم في الحياة، يشغل كاسر الآن منصب أستاذ فخري في كلية نوكس. وجد تيم وفريقه أن شخصًا يضع الشهرة والثروة والجاذبية في أولوياته سيعاني القلق والاكتئاب، وقد يلجأ إلى التدخين وشرب الكحول وسيشاهد التلفاز بكثرة ولن تكون علاقاته الاجتماعية كافية، أي سيحظى عمومًا بمستوى رفاهية أقل. وما يثير الاهتمام أن نمط الحياة الوخيم هذا لا علاقة له بمدى ثروة المرء أو شهرته أو جاذبيته، بل بمدى رغبته في تلك الأمور.
عُني البحث في معظمه بتأثير الرغبة في الشهرة، لكن كاسر وفريقه حققوا في الأسباب وراء تلك الرغبات أيضًا. مثلًا، وجدت إحدى الدراسات أن المراهقين بعمر 18 الذين يرغبون بشدة في أن يصبحوا أغنياء كان آباؤهم لا يعتنون بهم جيدًا. عندما يكون الآباء باردين ومتسلطين فإن أطفالهم يركزون على الحصول على الحماية وعلى الشعور بالقيمة من مصادر خارجية.
المشكلة أن امتلاك المرء ثروةً كبيرة وشهرة لا يعطيه رضًا حقيقيًّا بالضرورة. وكونه محترم من المجتمع بسبب تلك المميزات ما هو إلا دليل على الفراغ وعدم شعوره بالأمان وعدم ثقته بنفسه، وهذا ما يدفعه إلى الرغبة في الحصول عليها. وسيتمثل ذلك فيما هم مستعدون للتضحية به، مثل وقتهم أو جهدهم أو كرامتهم، لكي يظهروا في برنامج على التلفاز، أو ليحرزوا مشاهدات على يوتيوب، أو يصبحوا مؤثرين على إنستغرام، يريد بعض الناس أن يكونوا مشاهير سواءً أجعلهم ذلك أغنياء أم لا، ولكن أن يكون لهم قوة مؤثرة ورائعة لدى الناس.
الشهرة محل تقدير اجتماعي أكثر من الثراء، والمفارقة المؤسفة أن الناس التواقين إليها يشعرون بالانعزالية وبأنهم غرباء بين الآخرين. يعتمد تقدير الشخص التواق للشهرة على كيف يراه الآخرون، تمامًا كحال فنان متعطشٍ لتصفيق الجمهور. الاختلاف أنه في حال الشهرة، يريد الشخص أن يراه ملايين الناس، والنقطة الأساسية ليست في حب الناس فحسب لكن في الشهرة أيضًا.
يتعلق الانطباع الذاتي بالانطباع الاجتماعي بقوة. سيلجأ من يشعر بالهزيمة وعدم الكفاءة إلى إنشاء تحد خيالي لتحقيق الانتصار: «سأريهم جميعًا عندما يصبح اسمي معروفًا». صحيح أن تحقيق الشهرة «سيريهم جميعًا» لأن من يقدّر الشهرة سيُدهش إذا حققها شخص ما. وهنا يُطرح سؤال آخر: لماذا يرى الكثير من الناس الشهرة شيئًا مذهلًا بل لا يُقاوم؟ بالنسبة إلى الأمور الأخرى كالثروة والجاذبية، فإذا كنت ثريًّا ستستطيع شراء الأشياء التي ستجعلك سعيدًا وستجعل الآخرين يحسدونك، رغم أن شراء الأشياء لن يعطيك السعادة الحقيقية، وأن حسد الناس سيجعل علاقتك بهم سيئة. أما الجاذبية، فإذا كنت وسيمًا أو إذا كنتِ جميلة، فسيرغب بك المزيد من الناس، غالبًا بسبب مظهرك فقط. في حالتَي الثروة والجاذبية سيقتصر الأمر على أناسٍ تعرفهم، أما في موضوع الشهرة، فما المغري في أن يعرفك أناس غرباء؟
أحد التفسيرات: نظرية السيطرة على الخوف؛ وهي فرع من علم النفس تفترض أن معظم تصرفاتنا يمكن تفسيرها بوصفها رد فعل لمعرفتنا بأننا سنموت يومًا ما. أثبتت الدراسات أن تذكيرنا بحتمية الموت يسبب حاجة ملحة لتعزيز احترامنا لأنفسنا وتمسكنا بالمبادئ التي تدعم تفرد الحياة البشرية وتصفها بالخلود والاستثنائية. وهنا، سيظن المرء أن الشهرة ستعطيه شيئًا من الطمأنينة وخلودًا رمزيًّا يواسيه عندما يشاهد البث المباشر الذي أطلقه على تيكتوك.
عبرت أيرين كارا عن ذلك بقولها «تذكروا اسمي» في أغنيتها Fame، التي حازت شعبية كبيرة ودخلت قائمة أفضل 40 أغنية عام 1980 وعُرضت في فيلم يحمل نفس الاسم. قالت في أغنيتها «سأعيش إلى الأبد».
لا يرغب جميع الناس بالشهرة، على الأقل يوجد الكثيرون ممن لا يرغبون بها بشدة. لكن توجد نسخة بديلة للفرضية السابقة لها جاذبية قوية: ظاهرة تقديس المشاهير، أي تقديس الشخص المشهور نفسه. هذا يساعد على شرح موقفنا عندما نحكي لأصدقائنا بكل شغف عن نجم سينمائي رأيناه في مطعم، ونُشيد بأن أحد أقاربنا البعيدين مشهور. يعيش المشاهير في عالم خاص بهم، وإذا لم نستطع أن نكون منهم، فإننا نتلهف لسطوع القليل من بريقهم علينا لنضفي جمالًا على حياتنا المملة. مرة أخرى، نريد معرفة من أين يأتي هذا الحماس فقط لأن الشخص الذي نتكلم عنه معروف بين الناس؟
ابتكر روبرت سيالديني، عالم النفس الاجتماعي وزملاؤه مصطلح BIRG اختصارًا لـ «النعيم في انعكاس المجد». فقد لاحظوا أن مشجعي الفرق الرياضية مثلًا رغم أنهم لم يمسكوا كرةً ولم يفعلوا شيئًا لدعم الفريق، فإنهم يصفون أنفسهم جزءًا من المجد الذي حققه الفريق ويهتفون «لقد حققنا البطولة» ولا يقولون «لقد حقق الفريق البطولة»، وفي إحدى الدراسات وُجد أن كلمة «نحن» تُقال أكثر عندما يفوز الفريق الذي يشجعونه.
يُطبق مصطلح «النعيم في انعكاس المجد» على الآباء الذين يعدون نجاح أبنائهم نجاحًا لهم. وهنا الفرق بين أن يفتخر المرء بنجاح ابنه وبين التباهي القائم على تغلغل شخصية الأب أو الأم في إنجازات الطفل على نحوٍ زائد. «النعيم في انعكاس المجد» هنا سيسبب الأذى للابن بسبب قبوله المشروط لرسالة الأب، إضافةً إلى ما يسببه من ضرر للصحة العقلية للآباء.
يرى سيالديني ورفاقه أيضًا أهمية «النعيم في انعكاس المجد» للأشخاص الذين يسعدون بسرد قصة كونهم في نفس المسرح أو الطائرة أو الحمام مع نجم سينمائي مشهور. واكتشفوا أن التركيز على الشهرة سيكون أكبر بعد فشل الشخص في القيام بمهمة ما. هذا يدعم فكرة أن حاجة الناس إلى التقدير هي السبب وراء ذلك، ما سيجعلهم يرغبون بأن يكونوا مشاهير أو أن يتعاملوا مع المشاهير، لذا يتواتر حدوث الأمر أكثر بعد الفشل.
ثمة شيء آخر يفعله الناس عندما لا يشعرون شعورًا حسنًا تجاه أنفسهم، وهو قضاء المزيد من الوقت على فيسبوك. فوسائل التواصل الاجتماعي ليست فقط وسيلةً لتصبح مشهورًا، بل طريقة موازية للبحث عن التقدير والطمأنينة. مثلًا، توجد نسخة من «النعيم في انعكاس المجد» سابقًا أطلق عليها علماء الاجتماع اسم «التفاعل ما وراء الاجتماعي». تعني تطوير نوعٍ من العلاقة المقربة لكن من جانب واحد.
إنهم لا يعرفونك لكنك تأتي لرؤيتهم كما لو كانوا أصدقاءك. وقد توسعت هذه الفرضية بتزايد مع نشوء مواقع التواصل الاجتماعي، لأن احتمالية أن يُتابعك شخص مشهور أو يعجب بمنشورك أو يُعيد نشر منشورك على تويتر تُعد إشارةً -وإن كانت وهمًا- إلى وجود صلة بينكما. وكلما كنت محبًا للشهرة أكثر، بدا الأمر أجمل.
يقترح دليل أولي أن من يفتقرون إلى القبول الاجتماعي والقلق بشأن العلاقات المقربة في الحياة الواقعية هم الأكثر ميلًا لإنشاء هذه العلاقات وراء الاجتماعية، وهم يعتمدون على وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا.
يبدو مما سبق أن السعي وراء الشهرة الحقيقية وتنوع «النعيم في انعكاس المجد» الذي نستخدمه أبرز انعدام الأمان الذي نشعر به، ربما نشأ الأمر أيضًا عند معرفتنا بحتمية موتنا. اكتشف الباحثون الذين يوظفون نظرية السيطرة على الخوف أن الناس عندما يتذكرون حتمية فنائهم يميلون إلى تفضيل أعمال فنية لمشاهير الفنانين بدلًا من الفنانين غير المشاهير. وفي تجربة أخرى صدق المتطوعون أن الطائرة أقل عرضةً للتحطم إذا كان يركبها أحد المشاهير.
في النهاية لا زلنا في حيرة حول السبب الذي يجعل الناس ينسبون أشياءً خارقة إلى مشاهير -أو سبب السعادة التي تغمرهم عندما يقابلون مشهورًا- أو يحلمون بأن يصبحوا مشاهير هم أنفسهم. في النهاية، نحن كما نحن سواء عرفنا الغرباء أم لا.
اقرأ أيضًا:
لماذا نحنّ إلى الماضي ونحب مشاعر النوستالجيا؟
لماذا تأتي نتائج التعاطف أحيانًا عكس ما نريد؟
ترجمة: ليلى حمدون
تدقيق: أكرم محيي الدين