هذه المقالة مستمدة من حلقة من برنامج “أقرب إلى الحقيقة” وفيها يقول كون:
مرض صديقي فجأة فطلب مني أن أوصله لبيته بدراجته النارية.
المشكلة أنني لم أقد دراجة في حياتي، والطريق إلى بيته يأخذ ساعة على الطريق السريع، لم يكن هناك خوذة.
وشخص آخر سوف يركب معي.
سألته إن كنا نستطيع أن نسلك طريقًا فرعياً فأجابني بالرفض! فسألته عن السرعة الدنيا التي يمكن أن أسير بها فقال لي 80 كم/س.
قلت له لن أفعل هذا.
كان هناك حشد كبير حولي يهتفون لي كي أقود تلك الدراجة.
قلت لا لن أفعلها بل سأطلب وسيلة نقل وأدفع للجميع.
أنا ذكي لكي أعرف أنه لا يجب أن أقود تلك الدراجة، ولكنني لست ذكيًّا كفاية لكي أدرك بأن هذا مجرد حلم! عندما استفقت، تعجبت في بادئ الأمر؛ من جهة، كنت مستوعبًا لجميع الأحداث التي جرت وكنت أتعامل مع المشاكل المعقدة بعقلانية.
ولكن من جهة أخرى، لم يكن لدي أي إحساس بالواقع الحقيقي.
كِلا الأمرين كان صادرًا من نفس العقل وفي نفس الوقت، هناك معنىً ما هنا: ما نفترض أنه نفسنا الموحدة هو في الواقع قوى عقلية متعددة، كلٌّ منها مرتبط بمنطقة معينة من الدماغ أو متعلق بنظام مختلف عن الآخر.
كلّ حياتي كنت مفتونًا بالدماغ البشري (لقد حصلت على درجة الدكتوراه في أبحاث الدماغ، وعملت أيضًا أشياء عديدة منذ ذلك الحين، حيث أنَّ شغفي بعلم الأعصاب وتطبيقاته لم يخفت بعد).
إنَّ الدماغ هو الآلية التي نفهم بها العالم من حولنا، إنه أكثر منظومة متطورة في الكون (بأبعد ما وصلنا فيه)؛ إنه علم قائم بحدِّ ذاته.
النوم والأحلام من وجهة نظري، هي أدلة عميقة مرتبطة بعلم وظائف الأعضاء وعلم النفس.
بدايةً مع النوم، عندما تكون متعبًا فالنوم يعتبر تصرفًا طبيعيًا.
ولكن من وجهة نظر تطورية، النوم يجب أن يكون غير متوقَّع، فالعالم القديم عنيف ومتوحش، وقضاء 6 الى 8 ساعات غائبًا عن الوعي–بشكل كامل– من شأنه أن يجعل الكائن عرضة للموت المفاجئ لأنه يكون علامة سهلة للمفترسين والأعداء.
فإذًا لماذا اختار التطور الكائنات التي تحتاج إلى النوم في حياتها؟
يخيفني النوم أحيانًا! أن تذهب إلى اللاوعي– أن تنتقل من الوجود إلا اللاوجود– يبدو مرعبًا حقًا، ليس لأنني أخاف ألا أستيقظ، بل لأنه يصيبني الرعب من الفراغ الذي يكون قبل الاستيقاظ، الإحساس باللَّاشيء، الإحساس بالعدم (في النوم الخالي من الأحلام).
حقيقةً أنا مهووس بحقيقة وسرّ “الوعي”، الذي هو نقيض اللاوعي والعدم.
كيف يا ترى لهذا الوعي الداخلي أن يتحقق؟
أحد الطرق التي تتيح اكتشاف سر الوعي هو البحث في اللَّاوعي والنوم.
وهناك طريقة أخرى وهي البحث في حالات بديلة للوعي كالأحلام مثلًا.
وهنا يأتي السؤال؛ ماذا يمكن للنوم والأحلام أن تكشف لنا عن الوعي؟
روبرت لورنس كون*(Robert Lawrence Kuhn) كاتب ومؤلف ومقدم البرنامج التلفزيوني بعنوان (أقرب إلى الحقيقة / Closer to Truth) عبارة عن مسلسل تلفزيوني وموقع على الإنترنت يقدم للناس أكبر المفكرين ليكتشفوا ويحققوا في أعظم وأعمق أسئلة البشرية.
علم النوم والأحلام
لطالما كانت الأحلام مدهشة، حيث أن أغلب أنواع الفولكلور والأساطير الشعبية نشأت من الأحلام، كما أن طقوس الأديان وربما بعض الأديان بأكملها كان منشأها الأحلام.
ويدعي البعض -حتى يومنا هذا- أن الأحلام بوابات إلى حقائق عليا.
روبيرت ستيكجولد (Robert Stickgold) الباحث في علوم النوم في كلية الطب بجامعة هارفارد يقول: “عندما نكون نائمين نبذل نفس الجهد الذي نبذله ونحن مستيقظين.
ويبدو أنَّ دماغنا أصلًا يحتاج مقابل كل ساعتين يكون فيها متيقظًا حيث يأخذ المعلومات ويجمعها، لساعة يكون فيها بحالة راحة (نائمًا مثلًا) لكي يحلل هذه المعلومات ويستوعبها جيدًا.”
ويضيف: “إنَّ أدمغتنا تحتاج لأن تكون في حالة راحة كي تنظم المعلومات، لنتمكن لاحقًا من تذكرها واسترجاعها عند الحاجة.
في هذه الحالة يطفئ المخ جميع المدخلات الخارجية ويقطع صلته بالعالم الخارجي وبهذا يتمكن من فعل ما يتوجب عليه عمله.”
وبحسب ستيكجولد، إنَّ فوائد النوم ليست محصورة فقط في تنظيم المعلومات في أدمغتنا بل أيضًا في ضمان عمل الوظائف الحيوية للجسم بكفاءة.
على سبيل المثال، ليلة نوم جيدة تمكن الجسم من إنتاج أجسام مضادة ممتازة.
وهناك أدلة على أن النوم غير الكافي يمكن أن يغيِّر إنتاج الأنسولين في الجسم (مما يفسر سبب السمنة الزائدة المنتشرة).
ويبدو أيضًا أن النوم يؤثر على تعزيز الإدراك والتنظيم العاطفي.
“لقد تكلمت مع أحد عازفي البيانو الذي قال لي أنه كان يتدرب على قطعة موسيقية، وبعد ساعتين من التدريب لم يستطع أن يعزف ثلاثة أسطر بالشكل الصحيح. لكن بعد أن خلد إلى النوم واستيقظ في اليوم التالي استطاع إتقان القطعة من أول محاولة”. يقول ستيكجولد.
أكد الباحثون أن النوم يعزز الذاكرة وبالتالي التعلُّم، كما أنه يدعم الجهاز المناعي وهكذا نحارب الأمراض بكفاءة، وينظم العواطف وربما يسيطر على السمنة أيضًا.
حاول أن تستمر لعدة أيام بدون نوم وسوف تكون في عداد الموتى! ففي حين أن الجسم يستطيع أن يقاوم حرمان الطعام لأسابيع فإنه لا يقدر ان يتحمل حرمان النوم لعدة ايام.
وهنا يكمن السؤال: ماذا يحدث فعليا خلال النوم؟
حسنًا، هناك مرحلتين أساسيتين في النوم – ال(REM) أو حركة العين السريعة، وهنا تحدث أغلب أحلامنا ويكن فيها نشاط الدماغ عاليًا، وال non-REM وهي المرحلة الثانية التي يكون فيها الدماغ في حالة نشاط قليل، وتكون هذه المرحلة خالية من الأحلام (وهي المرحلة التي يعتبرها أغلب الناس هي النوم الفعلي).
تقترح بعض الأدلة أن النوم (وبشكل خاص مرحلة العين السريعة الحاوية على الأحلام) يمكن أن يدعم الإبداع.
وفي ذلك يقول عالم الأعصاب بجامعة بوستن باتريك مكنامارا (Patrick McNamara) “الأحلام خلاقة؛ حيث أنها تجمع بعض العناصر الأساسية وترتبهم بطريقة غريبة وتخلق منهم أشياء جديدة وعوالم أخرى لتعطي للعالم شكلًا آخر”.
بالنسبة لي تبدو الأحلام المرعبة أكثر غرابة من تلك التي تحوي إبداعًا.
ولكن بالنسبة لمكنامارا فإنك لو أيقظت الناس من النوم في مرحلة حركة العين السريعة وسألتهم أن يصفوا لك أحلامهم فإن الأغلبية ستكون أحلامهم إبداعية لكن لا تحوي تجربة غريبة أو كوابيس.
يؤكد ديردر باريت (Deirdre Barrett) عالم النفس في كلية الطب بجامعة هارفارد وباحث في الأحلام، أن هناك حالات موثقة حيث حَلّت الأحلام مشاكل حقيقية كانت تبدو معقدة.
كما أن هناك شروط معينة ينبغي توافرها في الحلم لكي يكون قادرًا على الإلهام كأن يكون الحلم واضحًا والحلول تكون غالبًا إبداعية وخارجة عن المألوف.
وأشار باريت “أن الأحلام ساهمت بشكل مباشر في اثنين من جوائز نوبل!”.
وهنا نطرح السؤال الكبير حول الأحلام: هل الأحلام ذات معنى بحد ذاتها كما يتصورها الروحيون وعلماء النفس؟ أم أنها عمليات عرضية من وظائف الجسم الفيزيولوجية البحتة خلال النوم؟
وفي كلتا الحالتين، هل يمكن للأحلام أن تحفز الإبداع عن طريق الأفكار الغريبة التي تطرحها وربط الأشياء ببعضها البعض بطريقة مختلفة؟
ما نعلمه، أن النوم بطبيعة الحال يبدو عاديًا جدًا ولكنه يتألف من عنصرين غريبين: الغياب التام للوعي والواقع الحقيقي، العيش في الواقع الخيالي الذي يتألف من الأحلام.
أسباب النوم والأحلام
ذهبت الى جامعة كامبردج لأزور نيكولاس هومفراي ((Nicholas Humphrey، عالم النفس الإنجليزي والذي كان يشرح “الوعي” من وجهة نظر تطورية.
وقال لي: “الأحلام هي شكل من لعب دور ما تمامًا كما نفعل في حياتنا الواعية، وهذا يسمح لنا بتجربة حياة مختلفة وبديلة في بيئة آمنة وخيالية، فإنك قادر على أن تكون طبيبًا أو ممرضًا أو راعي بقر أو حتى هندي أحمر. كل هذه الأدوار وأكثر يمكن أن تختبرها في أحلامك والتي لم تكن قد جربتها من قبل في حياتك الواقعية”.
نحن نلعب أدوارًا أكثر من تلك كل ليلة” يقول هومفراي، “في مسرح أحلامنا الآمن تمامًا.
تضمن الطبيعة لنا أن نبقى مشلولي الأجساد من الرقبة حتى بقية الجسم وبهذا لا يمكن أن نقوم بحركات وسلوكيات خارج أحلامنا؛ لهذا يمكن أن نطير، نقاتل، أو نمارس الحب، أو نفعل ما يحلو لنا بطرق جديدة ومختلفة تمامًا، مع أناس جدد، أو قدامى، مع أصدقاء لا يملكون أدنى فكرة كيف نعاملهم في أحلامنا!”
ويضيف: “إنَّ النوم هو نوع من أنواع الموت المؤقت، وهذا الموت يخبرنا أننا سوف نحياه: فحين نذهب إلى النوم –يطمَسُ وعينا ونطمَسُ نحن أنفسنا – ولكن بالتأكيد في اليوم التالي نعيد وعينا ونخلق أنفسنا من جديد. وهذا مجرد شيء اعتيادي بالنسبة لنا بل هو أمر مفروغ منه ولكنه في الحقيقة معجزة – فنحن في الواقع نفقد وعينا وبعدها من لا شيء كل شيء يعود من جديد. إنه يشبه نوعًا ما الانفجار العظيم (Big Bang)، حيث خُلِق الكون من لا شيء. نحن نكرر هذا السيناريو كل يوم عندما نستيقظ.”
باختصار، لماذا النوم؟ صحة جيدة وتفكير سليم
لماذا نحلم؟
يقول البعض من أجل الإبداع والقدرة على التكيف.
لنسبح مع الغرباء، لنلعب دون أن نؤذي أحدًا، لكي ندخل إلى عقول الآخرين.
ولكن بالنسبة للبعض الآخر فالأمر مختلف؛ حيث أنَّ الأحلام عندهم مجرد عملية بيولوجية يقوم بها الدماغ كنوع من التدبير المنزلي للجسم.
هل كان النوم مطلوبًا في التطور؟
على ما يبدو كان مطلوبًا لكي تفقد الحيوانات المفترسة التي تجوب الأرجاء قوتها وتغيب عن الوعي سامحة لتوافر أفضل للنسل.
أو ربما يكون النوم مُحسِن من حالة اليقظة ومقوي لها.
الفكرة الأخرى الغريبة، أن الناس تربط أحيانًا بين الموت والنوم، فلأننا نفقد وعينا أثناء النوم فالبعض يسميه الموت المؤقت.
ولأننا نكون دائمًا مستيقظين بعد النوم، فالبعض يعتقد أننا وبشكل مشابه سوف نستيقظ بعد الموت.
ولكن كحجة للحياة بعد الموت، أخشى أن هذا ليس كافيًا كي نعتقد ذلك، لأن التشابه بين النوم والموت يكاد يكون معدومًا.
ترى هل يمكن للنوم أن يكون نافذة لعجائب الوعي؟ نعم بكل تأكيد، فباختبارنا لفقدان الوعي نحن نقدر “الوعي” بشكل أكثر عمقًا!
* كون هو أيضًا شريك جون ليزلي ( John Leslie) في تحرير كتاب (سر الوجود لماذا هناك أي شيء على الإطلاق؟ The Mystery of Existence: Why Is There Anything at All?) لكاتبه ويلي بلاكويل (Wiley-Blackwell).
إعداد: حسن أيمن كوسا
تدقيق: منار نعيم
تحرير: كنان مرعي
المصدر