يعيد تعبير (مصاص الدماء) شخصية دراكولا إلى أذهان معظم الأشخاص، أو ربما شخصيات صيادي مصاصي الدماء، أو حتى الخفافيش مصاصة الدماء الموجودة في أمريكا الجنوبية، لكن قليلين سيفكرون بطائر صغير وجميل كالعصفور. توجد حقًا عصافير مصاصة للدماء ، تتغذى على دماء عصافير أكبر حجمًا، أُعلِن عن وجودها أول مرة في مقطع مدهش من برنامج (بيرفيكت بلانيت).
توجد تلك الطيور في أرخبيل بركاني يسمى بجزر غالاباغوس التي تعج بالتنوع البيولوجي، ويعود ذلك جزئيًا إلى عزلتها إذ تبعد نحو ألف كيلومتر عن ساحل الإكوادور، ولا بد للكائنات الحية التي تجد طريقها إلى جزر غالاباغوس أن تكون قادرة على التكيف مع ظروفها القاسية بطريقة ما، وإلا ستنقرض.
تعد عصافير داروين أحد الأمثلة من مجموعات الكائنات تلك، وتعود التسمية إلى عالم الطبيعة تشارلز داروين الذي جمع أمثلة منها في أثناء رحلته الشهيرة على متن (HMS Beagle)، تألفت مجموعة العصافير تلك من عدة أنواع تطورت من سلف مشترك.
تطور منقار كل نوع بحجم وشكل مختلفين، ما سمح لهم باستهلاك عناصر غذائية مختلفة. فمثلًا، تملك نمنمة الصبار منقارًا طويلًا نحيلًا ما يسمح لها بالتغذية على رحيق أزهار الصبار، بينما تمتلك أنواع أخرى مناقير أكثر ملائمة لسحق البذور، وتتغذى أخرى على الحشرات أو النباتات.
من المنطقي تطور مختلف أنواع العصافير للتغذي على مختلف أنواع الطعام في غالاباغوس، ولكن من أين أتى النوع الذي يتغذى على الدماء؟
كيف تطور النوع مصاص الدماء؟
يقتصر وجود هذه العصافير على جزيرتي وولف وداروين اللتان تقعان أقصى شمال الأرخبيل، وتُعدان نائيتين حتى بالنسبة لغالاباغوس إذ تبعد كل منهما نحو 160 كيلومتر، وكلتاهما صغيرتان بمساحة أقل من 2.58 كيلومتر مربع، والمياه العذبة نادرة فيهما وتكادان تخلوان من الغذاء بالكامل في موسم الجفاف.
وصلت العصافير منذ نصف مليون سنة مضت إلى هاتين الجزيرتين، وبدأت التعايش مع الطيور البحرية المعششة عليهما مثل طيور الأطيش أحمر القدمين ونازكا. ومع مرور الوقت، تطورت العصافير على الأرجح لتتغذى على الطفيليات الموجودة في ريش طيور الأطيش وعلى سطح جلدها، ويعد ذلك منفعة متبادلة إذ تخلصت طيور الأطيش من الطفيليات بينما استفادت العصافير من وجود بديل عن غذائها المعتاد من رحيق الصبار والبذور والحشرات، التي قد تختفي في موسم الجفاف.
ولكن، أدت عملية إزالة الطفيليات لاحقًا إلى إصابة طيور الأطيش بجروح جلدية تسمح للعصافير أن تتغذى على الدم، وحتى أنها تعلمت أن تثقب الجلد أسفل الريش حديث النمو لتصل إلى الدم مباشرةً دون الحاجة إلى الحشرات الطفيلية. وبناء على ذلك، استفادت العصافير من مصدر غذائي بديل، وأصبحت دماء الأطيش تشكل 10% من غذائها واكتسبت بذلك لقب العصافير مصاصة الدماء.
يبدو أن عملية الانتقاء الطبيعي قد صقلت منقار العصفور مصاص الدماء ليصبح قادرًا على إحداث ثقب في الجلد وامتصاص الدماء، إذ طورت العصافير بشكل خاص مناقير طويلة ومدببة مقارنة مع المجموعات غير المتغذية على الدماء بالجزر الأخرى.
وحتى بعد ثقب العصفور المتغذي على الدماء للجلد، ما يزال بحاجة إلى وسيلة لهضم غذائه. ولوحظ وجود ميكروبيوم في أمعاء هذه العصافير مصاصة الدماء مختلف تمامًا مقارنة بميكروبات مجموعات عصافير داروين الأولى، ومن المرجح أنها ناتجة عن حمية الدم.
ساهمت عزلة الجزر بوفرة العصافير مصاصة الدماء، والمستعمرات الكثيفة لتكاثر طيور الأطيش جعلت تخيل كيفية تطور ذاك السلوك الغريب أسهل، والمثير للاهتمام أن العصافير تتصرف فعليًا كطفيلي، إذ تلحق ضررًا كافيًا لتأمين وجبة دون أذىً للمضيف، وبالنسبة إلى طيور الأطيش يشبه هذا الأمر إنسانًا يهاجمه البعوض.
اقرأ أيضًا:
التطور الملحوظ أثناء الحدوث – الجزء الثاني (عصافير دارون)
داروين محق من جديد: أحفورة رائعة تظهر تطور العصافير الأولى تمامًا كما توقع
ترجمة: سامية الشرقاوي
تدقيق: محمد حسان عجك