بحث الفيزيائيون في ثلاث من أصل أربع قوى للطبيعة، القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة والقوية، وصولًا إلى أصولها في الجسيمات الكمية. لكن القوة الأساسية الرابعة -الجاذبية- تختلف.
يخبرنا فهمنا الحالي عن الجاذبية، بعد قرن من إبداع ألبرت أينشتاين، أن التفاح يسقط من الأشجار والكواكب تدور حول النجوم بسبب انحناءات في نسيج الزمكان، هذه الانحناءات هي الجاذبية. فوفقًا لأينشتاين، الجاذبية هي إحدى سمات نسيج الزمكان، أما القوى الطبيعية الأخرى فتؤدي دورها خارج هذا الإطار.
لكن قوانين أينشتاين تنهار قرب مركز الثقب الأسود أو في اللحظات الأولى لولادة الكون. إذ يحتاج الفيزيائيون إلى صورة أكثر واقعية للجاذبية لوصف هذا الشذوذ بدقة، ويجب أن تثبت هذه النظرية صحتها في كل مكان كما فعلت نظرية النسبية.
يعتقد الفيزيائيون أن الجاذبية -وفقًا لهذه النظرية- يجب أن يكون لها شكل كمومي، مثل القوى الأخرى في الطبيعة. بحث الفيزيائيون في النظرية الكمومية للجاذبية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ورشحوا العديد من الأفكار، كنظرية الأوتار، التي تقول إن الجاذبية والظواهر الأخرى تنشأ بفعل اهتزاز أوتار بالغة الصغر، لكن تبقى هذه الاحتمالات حتى الآن مجرد تخمينات غير مفهومة بالكامل. اليوم، ربما تكون النظرية الكمومية للجاذبية هي الهدف الأسمى في الفيزياء.
ما الذي يجعل الجاذبية فريدة؟ وما المختلف في هذه القوة الرابعة فلا يستطيع الباحثون إيجاد وصفها الكمي الأساسي؟ سألنا عدة باحثين في الجاذبية الكمومية، لنحصل على إجابات مختلفة.
الجاذبية تؤدي إلى الثقوب السوداء
دانييل هارلو، باحث في مجال الجاذبية الكمية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، معروف بتطبيق نظرية المعلومات الكمية لدراسة الجاذبية والثقوب السوداء:
تُعَد الثقوب السوداء سبب صعوبة الدمج بين الجاذبية وميكانيكا الكم. قد تكون الثقوب السوداء نتيجةً للجاذبية، لأن الجاذبية هي القوة الوحيدة التي تستطيع التأثير في أي نوع من المادة. وإذا لم يتأثر أي نوع من الجسيمات بالجاذبية، فعندها يمكن استخدامه لاستخراج رسالة من قلب الثقب الأسود، وفي هذه الحالة لن يكون هذا الثقب أسود.
إن حقيقة أن كل المواد تتأثر بالجاذبية تفرض قيودًا على أنواع التجارب الممكن إجراؤها، فأيًا كان الجهاز الذي تصنعه، وبصرف النظر مم هو مصنوع، فمن المستحيل أن يكون ثقيلًا جدًا، وإلا سينهار بالضرورة بسبب جاذبية الثقب الأسود. هذا القيد لا علاقة له بالحالات اليومية العادية، لكنه يصبح ضروريًا إذا حاولت تنفيذ تجربة لقياس الخواص الكمية للجاذبية.
يعتمد فهمنا لقوى الطبيعة الأخرى على مبدأ الموقع، الذي يقول إن المتغيرات التي تصف ماذا يحدث في كل نقطة في الفضاء، كقوة المجال الكهربي مثلًا في تلك النقطة، قد يتغير تغيرًا مستقلًا. إضافةً إلى ذلك، فإن هذه المتغيرات، التي نسميها (مستويات التحرر)، تتأثر بجيرانها مباشرة. فالموقع مهم للطريقة التي نصف بها الجسيمات وتفاعلاتها، لأنها تحافظ على السببية. فإذا استندت مستويات التحرر هنا في ماساتشوستس على مستويات التحرر في سان فرانسيسكو، ربما نكون قادرين على استخدام هذا الاستناد لتحقيق اتصال لحظي بين المدينتين، أو حتى إرسال المعلومات رجوعًا بالزمن، ما يقودنا إلى خروقات محتملة في السببية.
اختُبرت فرضية الموقع جيدًا تحت ظروف عادية، وربما كان من الطبيعي افتراض أنها تمتد حتى مسافات قصيرة ذات صلة بالجاذبية الكمية (مسافات قصيرة لأن قوة الجاذبية ضعيفة جدًا مقارنة بالقوى الأخرى). ولتأكيد وجود فكرة الموقع عند المقاييس الصغيرة، نحتاج إلى بناء أداة قادرة على اختبار استقلالية مستويات التحرر التي تفصلها هذه المسافات الصغيرة. رغم ذلك، يبيّن حساب بسيط أن جهازًا خفيفًا بما يكفي لتجنّب التقلبات الكمية في موقعه، سيكون في الوقت ذاته ثقيلًا بما يكفي للانهيار في ثقب أسود!
وعلى هذا تُثبت التجارب أن الموقع عند هذه المقاييس غير ممكن، ومن ثم لا تحتاج الجاذبية الكمية إلى اعتبار الموقع عند هذه المقاييس الطولية.
في الواقع، يفترض فهمنا الحالي للثقوب السوداء أنه يجب على أي نظرية للجاذبية الكمية أن تكون ذات مستويات تحرر أقل بدرجة ملموسة مما كنا سنتوقع اعتمادًا على خبرتنا مع القوى الأخرى. وتتجسد هذه الفكرة في مبدأ (التصوير المجسم)، الذي يقول إن عدد مستويات التحرر في حيز مكاني تتناسب مع مساحة سطحها عوضًا عن حجمها.
تخلق الجاذبية شيئًا من لا شيء
خوان مالداسينا، وهو عالم نظري في الفيزياء الكمية في معهد الدراسة المتقدمة في برينستون في نيوجيرسي، الذي اشتهر باكتشافه الهولوغرام، مثّل العلاقة بين الجاذبية وميكانيكا الكم كالتالي:
تستطيع الجسيمات أن تظهر في العديد من الظواهر المثيرة الرائعة. إذ قد يكون لدينا خلق تلقائي للجسيمات، وتشابك بين حالات الجسيمات المختلفة، إضافةً إلى وجودها في أكثر من موقع في نفس الوقت.
في الجاذبية الكمية، يتصرف نسيج الزمكان بطريقة روائية. فبدلًا من خلق الجسيمات، يحدث خلق الأكوان. يُعتقد أن التشابك يخلق تواصلًا بين المناطق البعيدة في الزمكان. إذ إن لدينا تراكبات مواقع في الأكوان ضمن الهندسات المختلفة لنسيج الزمكان.
إضافةً إلى ذلك، فالفراغ هو جسم معقد من منظور فيزياء الجسيمات. إذ نستطيع أن نتخيل العديد من الكيانات التي تُسمى الحقول المتراكبة فوق بعضها، وتمتد في جميع أنحاء الفضاء. وتتقلب قيمة كل حقل باستمرار عند المسافات القصيرة. وتظهر حالة الفراغ خارج هذه الحقول المتقلبة وتفاعلاتها. فيمكننا تخيلها شذوذات صغيرة في بنية الفراغ.
وعندما نأخذ الجاذبية في الاعتبار، نجد أن تمدد الكون يُصدر المزيد من هذه الأشياء الفراغية من لا شيء. وعندما ينشأ نسيج الزمكان، يحدث ذلك في الحالة التي تتوافق مع فراغ دون شذوذ. وكيفية ظهور الفراغ بترتيب صحيح هو أحد الأسئلة الرئيسية التي نحتاج إلى الإجابة عنها، من أجل الحصول على وصف كمي ثابت للثقوب السوداء وعلم الكون. في كلتا الحالتين هناك نوع من تمدد الزمكان الذي يُنتج خلق المزيد من الفراغ.
لا يُمكن قياس الجاذبية
سيرا كومينيني، عالمة الفيزياء النظرية في جامعة لاهاي، تعمل على نظرية الأوتار والجاذبية الكمية وعلم الكون:
الجاذبية مميزة للعديد من الأسباب. ولنركز على جانب واحد، الفكرة التي تقول إن النسخة الكمومية لنسبية أينشتاين العامة لا يمكن تغييرها، ولهذا تأثيرات في سلوك الجاذبية عند الطاقات العالية.
في النظريات الكمية، يظهر مصطلح اللانهاية عندما تحاول حساب مدى طاقة الجسيمات للتبعثر عن بعضها وتفاعلها. في النظريات القابلة للتشكل، التي تتضمن النظريات التي تصف كل قوى الطبيعة باستثناء الجاذبية، نستطيع إزالة هذه (اللانهايات) بطريقة صارمة، بناءً على إضافة قيم أخرى تلغيها تمامًا، لذلك عُرفت بالعدّادت المضادة. وتقود عملية التطبيع هذه إلى إجابات معقولة فيزيائيًا، تتوافق مع التجارب بدقة عالية.
المشكلة في النسخة الكمية من النسبية العامة هي أن الحسابات التي ستصف تفاعلات الجاذبية المفعمة بالطاقة -وحدات كمية من الجاذبية- سيكون لها عدد لا نهائي من المصطلحات اللانهائية. وستحتاج إلى إضافة عدد لا نهائي من العدّادات المضادة في عملية لا تنتهي. وعلى هذا ستفشل عملية إعادة التطبيع. بسبب ذلك، ليست النسخة الكمومية من النسبية العامة لأينشتاين وصفًا جيدًا للجاذبية عند الطاقات العالية. فهو يفتقد بعض الميزات والمكونات الرئيسية للجاذبية.
رغم ذلك ما زال بوسعنا الحصول على وصف تقريبي للجاذبية عند طاقات أقل باستخدام معايير ميكانيكا الكم، التي تظهر في تفاعلات أخرى في الطبيعة. والنقطة المهمة هي أن هذا الوصف التقريبي للجاذبية سينهار عند مقاييس الطاقة الأقل، التي تعادل أطوالًا معينة.
فوق هذا المقياس للطاقة، أو أقل من مستوى الطول المرتبط به، نتوقع إيجاد مستويات جديدة من التحرر، وتناظرًا جديدًا. وللحصول على هذه الميزات بدقة نحتاج إلى مخطط نظري جديد. هنا بالضبط تأتي نظرية الأوتار لتعمم: وفقًا للنظرية، على مسافات قصيرة جدًا، سنرى أن الجرافيتون وجسيمات أخرى هي جسيمات متمددة، تُسمى أوتارًا. ربما تعلمنا هذه الإمكانية دروسًا قيمة عن السلوك الكمي للجاذبية.
اقرأ أيضًا:
هل تختلف الجاذبية على الأرض من مكان إلى آخر ؟
ترجمة: فارس بلول
تدقيق: إبراهيم قسومة
مراجعة: أكرم محيي الدين