أتعلم تلك اللحظة عندما يحمل الهواء إليك رائحةً معينة، وفجأة تسافر بخيالك إلى لحظة زمنية معينة وتحتّل ذكراها جلَّ أفكارك ومشاعرك. وبينما تقرأ هذا الكلام، ربما فكّرت في آخر مرة تعرضت لهذا الموقف. وإن لم تستطع، حاول استعادة آخر مرة اختبرت ذلك، لربّما كانت ذكرى عزيزة لشخصٍ أو مكان أو طعام أو ربما ذكرى من طفولتك. بالنسبة إلي، أصادف أحيانًا رائحة معينة لكن يتعذّر عليّ وصفها. وعند استنشاقها أعود طفلًا في الرابعة من عمره في المدرسة التحضيرية، أرتدي سترة بلاستيكية أكبر من مقاسي واقفًا أمام حامل اللوحة مع فرشاة كبيرة في يدي وأرسم رسمًا ملوّنًا وتجريديًّا. وأشكّ في أنه لو لا الرائحة لما عبرت هذه الذكرى في بالي، أو لما تذكرتها بهذا الوضوح.
وجدت الدراسات أن الذكريات التي تحرضها الروائح تكون عاطفيةً أكثر من تلك التي تحرضها الأصوات والمشاهد، وأقوى من الذكريات المترافقة مع الكلمات والصور.
وما يثير الاهتمام أكثر، هو أن الروائح تبدو قادرة على إثارة ذكريات أقدم من تلك المترافقة مع حواس أخرى.
في الحقيقة، غالبًا ما تتصل الذكريات التي تحرضها الروائح بالأحداث والأشخاص والأماكن والأغراض من السنوات العشر الأولى من حياتك.
كيف نشم؟
الشم من أولى الحواس التي تتطور في الكائنات الحية، وهو الوسيلة الأولى على الإطلاق المستخدمة في التواصل بين الأحياء. وكانت حاضرة على الدوام بطريقة ما خلال التطور في الخمسمئة مليون سنة؛ مكّن ذلك من تطور نظام الشم عالي التعقيد الذي نمتلكه في أنوفنا حاليًّا.
من المدهش التفكير أن ثلاثة أنماط فقط للمستقبلات البصرية الحسّاسة للضوء قادرة على تكوين الطيف اللوني الذي نراه.
والآن تخيّل وجود أكثر من ١٠٠٠ نمط للمستقبلات الشمية في أنوفنا. ما يعني إمكانية اكتشاف أكثر من تريليون رائحة مختلفة بالأنف. ولا عجب في وجود الكثير من الروائح التي لا نستطيع وصفها أو الإحاطة بخصائصها، لكننا نعرف ماهيتها تمامًا. قد تفكر في الفائدة وراء وجود الكثير من المستقبلات الشمية في حين تؤدي عيوننا وظيفتها بثلاثة مستقبلات فحسب.
حسنًا، ومن وجهة نظر بيولوجية تطورية، فإن الرائحة جوهرية للنجاة. فقد استُخدِمت لإيجاد الطعام، والعثور على الأزواج، وتكوين الرابطة الخاصة بين الأم وطفلها، والتعرّف على المخاطر مثل الحيوانات المفترسة والسموم.
كيف تعالج أدمغتنا الرائحة؟
من غير المفاجئ -مع أخذ كل ما سبق بعين الاعتبار- أن لحاسة الشم طريقًا متفرّدة إلى الدماغ. وعلى عكس التنبيهات الحسية الأخرى، لا تمر التنبيهات الشمية عبر المهاد. وذلك غريب، لأن المهاد يجمع التنبيهات الواردة من الجسم ويوزعها على الأجزاء المناسبة من الدماغ. لكن تنتقل التنبيهات مباشرةً من الفص الشمي في الجزء الأمامي من الدماغ إلى القشرة الدماغية المسؤولة عن الشم التي تدعى القشرة الشمية، وتعالج الرائحة في الذاكرة قصيرة الأمد وتجمع معلومات مساعِدة من الحواس الأخرى لتكون مراجع مستقبلية في الذاكرة طويلة الأمد.
تنتقل التنبيهات أيضًا إلى أجزاء من الجهاز اللمبي (الحوفي)، -مركز الدماغ للمشاعر والذاكرة- وتستهدف الحُصين واللوزة.
الحُصين هو الجزء الذي تتكون فيه الذكريات وتُخزَّن وتُنظَم. ويربط الحُصين الذكريات مع الحواس التي من بينها الشم.
على الجانب الآخر، اللوزة هي منطقة صغيرة -لكن مهمة- في الدماغ. تتعلق أوليًّا بالمشاعر وتتشارك في رابط مباشر قوي مع الفص الشمي. لكن اكتُشفت أيضًا مساهمتها في تكوين الذكريات الطيبة والسيئة.
ممتعة فكرة ارتباط الرائحة بقوة مع الذاكرة والمشاعر في العمل الداخلي لأدمغتنا. وأعتقد أن ذلك، بالإضافة إلى كونها أقدم حواسنا تطوّرًا، يفسّر سبب تحريض الرائحة لهذه الاستجابة القوية المكونة من المشاعر والذكريات. وهذا السبب وراء أن الذكريات التي تحرضها الروائح مقارنةً بباقي الحواس تُختَبر بصورة عاطفية وشاعرية أكثر. وذلك وفقًا لما قالته رايتشل هيرز، الأستاذة المساعدة في قسم الطب النفسي والسلوك البشري في جامعة براون في رود آيلاند، ومؤلفة كتاب (رائحة الرغبة). وأضافت أن رائحة مألوفة لكن منسيّة منذ أمد بعيد قد تدفع الناس إلى البكاء.
إحساس الرائحة
تقول هيرز: «الروائح بالذات قد تستحضر ذكريات لا تأتي بطرق أخرى». وبالمقارنة، لا يحثّك المشهد اليومي لأناس وأماكن مألوفة على استحضار ذكريات معينة. مثلًا؛ المشي في غرفتك هو محفّز مكرّر تمارسه مرارًا، لذا من غير المرجّح أن يستحضر الفعل لحظة معينة حدثت في تلك الغرفة. وعلى الجانب الآخر، تضيف هيرز: «إن وجدت رائحة ترتبط بأمرٍ حدث في ماضيك ولم تصادف تلك الرائحة مجددًا، فربما لن تتذكر ما كان ذلك الأمر».
عندما يشمّ شخصٌ ما رائحة ترتبط بحدث مهم في ماضيه، سيستجيب عاطفيًّا للإحساس، ثم تتلوه الذكرى. وتقول هيرز: «لكن أحيانًا، لن تطفو الذكرى أبدًا، فقد يشعر الشخص بإحساس من الماضي لكن لن يتذكر ما اختبره، وهذا يختلف عن أي تجربة حسية أخرى». وبكلمات أخرى، على الأرجح لن ترى شيئًا وتشعر بإحساس تفشل معه في استعادة ذكرى ترتبط بذلك المشهد والشعور.
ويعود ذلك -جزئيًّا- إلى السياق. تخيل شخصًا يمشي في الشارع ويشم رائحة صادفها منذ عقود خلت واعتراه شعور ما. إن صادف تلك الرائحة في سياق مختلف تمامًا، لنقل في قاعة سينما فسيكون من الصعب عليه تحديد الذكرى المترافقة. تقول هيرز: «يستخدم الدماغ السياق لإضفاء المعنى على المعلومة وإيجاد تلك الذكرى».
بعد فترة، إن استمر الشخص في شم رائحة ما، ستنفك الرائحة عن الذكرى وتخسر سلطانها في استدعاء تلك الذكرى.
وأكثر من ذلك، للذكريات التي تُستعاد بالروائح نفس مواطن ضعف الذكريات الأخرى. وهكذا قد تكون غير دقيقة وتتغير مع كل استعادة للذكرى، لكن وبسبب الترابط العاطفي القوي تتحرض الذكريات.
وتقول هيرز: «الناس الذين يتذكرون أمرًا ما بسبب الرائحة، مقتنعون بدقة الذكريات».
تمتد العلاقة بين الرائحة والذاكرة إلى مشكلات صحية متعلقة بالذاكرة. وقد يشكل أحيانًا تناقص حاسة الشم عرضًا مبكّرًا للأمراض المرافقة لفقدان الذاكرة مثل مرض باركنسون وألزهايمر، لكنه قد ينتج أيضًا عن الشيخوخة.
قد يمتلك هذا الإرباك الغريب للعواطف والروائح تفسيرًا تطوّريًّا بسيطًا. تطورت اللوزة عن منطقة في الدماغ تخصصت في كشف المواد الكيميائية. وتقول هيرز: «تقودنا عواطفنا إلى بعض الأمور أو تبعدنا عنها. وهذا تمامًا ما تفعله حاسة الشم. لذا كلتاهما مرتبطة مع نجاتنا».
تضيف كاتز: «في الحقيقة، تمثّل الطريقة التي نستخدم فيها المشاعر لفهم العالم والتجاوب معه طريقة استخدام الحيوان لحاسة الشم. لذا في المرة القادمة التي تندفع فيها إلى البكاء بسبب نفحة من العطر أو تبتسم بانشراح بعد أن شممت رائحة فطيرة منزلية. فبإمكانك شكر عقلك أو لومه على طريقته في تنظيم معلوماته على أساس خبراته السابقة».
اقرأ أيضًا:
خطايا الذاكرة.. ماذا تفعل بك ذاكرتك؟
كم هو عدد الروائح التي يستطيع أنف الانسان تمييزها؟
ترجمة: سِوار قوجه
تدقيق: حنين سلَّام
مراجعة: عون حدّاد