يتحدث الأوروبيون بفخر عن قائمة مهمة ومثيرة للإعجاب من شركات التكنولوجيا العظيمة، لكن في الوقت ذاته خسرت أوروبا هذه الشركات لصالح الأسواق المالية الأمريكية، فما الذي يحدث؟
من المملكة المتحدة اختارت شركة Arm المصممة للشرائح الإلكترونية إعادة إدراج أسهمها في بورصة ناسداك الأمريكية في 2023، بعد أن شحنت أكثر من 250 مليار شريحة طوال مدة عملها. أما في ألمانيا، فقد أُدرِجت شركة BioNTech المعروفة بصناعتها للقاح كوفيد، في مؤشر ناسداك سنة 2019. وفي السويد، أعلنت خدمة البث الموسيقي الشهيرة Spotify إدراج أسهمها في سوق البورصة بنيويورك.
ومنذ عام 2018، أُدرِجت نحو 50 شركة تكنولوجيا أوروبية في الأسواق الأمريكية، وبحسب تقرير حديث صادر عن شركة ماكينزي، خسرت أوروبا بهذا إجمالي 439 مليار دولار من القيمة السوقية بين عامي 2015-2023، وذلك بحساب القيمة السوقية للشركات في وقت طرحها الأولي للعموم والزيادة اللاحقة في قيمتها السوقية.
فلا عجب إذن في ارتفاع الأصوات المنادية بإنشاء بورصة ناسداك خاصة بأوروبا بحلول موسم الاكتتاب العام الأولي القادم.
وفي رسالة مفتوحة حثت مجموعة من البورصات الأوروبية ومنها (يورونيكست ودويتشه بورس) وجمعيات الشركات الناشئة الاتحاد الأوروبي على استكمال إنشاء اتحادات أسواق رأس المال التي ظل يناقشها طوال عقد، إذ كتبوا في هذه الرسالة: «إن وجود أسواقٍ ماليةٍ أوروبية مفتوحة ومتكاملة تعمل جيدًا خطوةٌ بالغة الأهمية لتعزيز السوق الموحدة».
وأكدوا أن مثل هذه الأسواق ستمنح دفعةً لقدرة الاتحاد الأوروبي على المنافسة والابتكار والنمو المستدام وخلق فرص العمل.
يضم الاتحاد الأوروبي حاليًا 35 بورصةً مدرجة و18 غرفةَ تبادل معلوماتٍ مركزية، مقارنة بثلاث بورصات مدرجة وغرفةِ تبادل معلوماتٍ واحدة في الولايات المتحدة.
مع ذلك، لا يمثل الاتحاد الأوروبي سوى 11% من القيمة السوقية للأسهم العالمية؛ وتمثل الولايات المتحدة 43% من القيمة السوقية للأسهم العالمية.
ويرجح أن تشمل الاكتتابات العامة الأولية القادمة لشركات التقانة الأوروبية كثيرًا من الشركات التي تسجل نموًّا عاليًا مثل Vinted وBolt وKlarna وNorthvolt وCelonis، ويبدو أن كثيرًا منها متجهة إلى الولايات المتحدة.
يرفض بعض الخبراء الماليين هذا الهوس بالموقع الجغرافي، فحتى إذا كانت الشركات الأوروبية مُدرجةً في بورصةٍ أميركية، فإنها عادة ما تحافظ على حضورٍ كبيرٍ في سوقها المحلية وتتمتع بالقدرة على النفاذ إلى رأس مال أرخص وسيولة أعمق وحاملي أسهم أكثر خبرةً في مجال التكنولوجيا في الولايات المتحدة؛ إذ أن رأس المال قابل للاستبدال ولا يحمل علم أية دولة.
فأين المشكلة إذن؟
تكمن المشكلة بأن هروب الشركات يعكس مشكلةً بنيوية أكبر وهي ضعف أوروبا في توفير رأس المال اللازم للنمو في المراحل المتأخرة. وعندما يضطر شركات التقانة الواعدة إلى الانتقال إلى الخارج، فإن أوروبا تخاطر بخسارة الوظائف وبراءات الاختراع والمدفوعات الضريبية والعائدات الاقتصادية التي تدرها هذه الشركات.
بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما تكون صناديق رأس المال الاستثماري الأميركية وصناديق التقاعد الكندية مستثمرين أنشط في المراحل المتأخرة من الاستثمارات في أوروبا مقارنة بالمؤسسات الأوروبية نفسها.
وقد عبر كلارك بارسون -المدير التنفيذي الأمريكي لشبكة الشركات الناشئة الأوروبية- عن دعمه للرسالة المفتوحة، بقوله «من المحبط أن يستفيد المتقاعدون في كندا وكاليفورنيا من الابتكارات الأوروبية أكثر من نظرائهم الأوروبيين في أغلب الأحيان»، ويتساءل: «لماذا تجد أوروبا ذات السوق الأكبر والتعداد السكاني الأعلى نفسها معتمدةً كليًّا على أسواقٍ ماليةٍ من وراء المحيط؟».
تُظهر دراسة حديثة من صندوق النقد الدولي أن على الاتحاد الأوروبي العمل بنشاط لتعزيز المزيد من الاستثمار الممول برأس المال الاستثماري في الشركات الناشئة المبتكرة، ما يقلل الاعتماد على التمويل المصرفي.
وينتج عن ذلك فوائد مباشرة من حيث النمو ونتائج جانبية إيجابية، وقد جمعت صناديق رأس المال الاستثماري في الاتحاد الأوروبي 130 مليار دولارٍ فقط مقارنة بـمبلغ 924 مليار دولار في الولايات المتحدة بين عامي 2013-2023.
لقد بدأت بالفعل الكثير من الترتيبات اللازمة لاقتصادٍ أكثر ديناميكية، فعلى مدى العقد الماضي، نجحت أوروبا في خلق مجتمع نابض بالحياة من الشركات الناشئة، كما تزخر المنطقة برواد الأعمال العازمين على إحداث تغيير في العالم، وصناديق رأس المال الاستثماري الأوروبية أنتجت عوائد أعلى من نظيرتها الأمريكية في نفس الفترة مع إنها أصغر، وذلك وفقًا لمنظمة كامبريدج أسوشيتس.
ويعِدُ الزعماء الأوروبيون -في خطاباتهم على الأقل- باستكمال تأسيس اتحاد أسواق رأس المال، وقد جعلت منه أورسولا فون درلاين أولويةً لعهدتها الثانية بوصفها رئيسة لمفوضية الاتحاد الأوروبي.
أما الوزير الأول الإيطالي السابق ماريو دراغي فمن المتوقع أن يساند الفكرة عندما يقدم تقريره النهائي عن التنافسية في أوروبا ظ، لكن زعماء كثير من دول الاتحاد الأوروبي -مثل فرنسا وألمانيا- يتعرضون لضغوط متزايدة من القوميين في الداخل وقد تقل عزيمتهم على اتخاذ مبادراتٍ جريئةٍ على الصعيد الأوروبي.
أخيرًا يرى بارسون أن الوقت قد حان لدفعةٍ إلى الأمام تهدف للتطرق إلى مشكلة الاتحاد الأوروبي التنافسية، وعلى الاتحاد الأوروبي أن يخفف من صرامة قواعد المنافسة داخله ويعزز تماسك سوق الأسهم، ما سيساهم في إنشاء مؤشر ناسداك الأوروبي. لكن للأسف، تعودت أوروبا على إهدار الفرص، ولا يمكنها تضييع المزيد منها إن كانت تريد فرض مكانتها التكنولوجية والجيوسياسية من جديد.
اقرأ أيضًا:
خمسة أسئلة عليك الإجابة عنها قبل شراء الأسهم
لماذا تقوم الشركات الكبرى مثل تسلا وأمازون بعملية تجزئة الأسهم؟
ترجمة: زياد نصر
تدقيق: جلال المصري
مراجعة: محمد حسان عجك