يجلس أمامي عميل يطلب المساعدة في تفكيك مشاكل علاقته العاطفية، وبصفتي معالجًا نفسيًّا أجتهد لكي أكون دافئًا ومُشجِّعًا ولا أصدر أحكامًا، ولذا ارتبكتُ قليلًا عندما قال في وسط وصفه لتجاربه المؤلمة: «أعتذر لكوني سلبيًا جدًا».
أحد الأهداف الجوهرية للعلاج النفسي هو تعلُّم إدراك مجموعة واسعة كاملة من المشاعر والتعبير عنها، وها هو يعتذر لفعل ذلك بالضبط.
يعاني الكثير من عملائي في عيادتي للعلاج النفسي من مشاعر مأساوية للغاية مثل الغضب الشديد أو الأفكار الانتحارية.
لقد لاحظتُ في الأعوام الماضية زيادةً في عدد الناس الذين يشعرون بالذنب أو بالخجل ممَّا يُدرِكوه بوصفه سلبيةً.
تنبع مثل تلك ردود الفعل بلا شك من انحياز ثقافتنا الجارف للتفكير الإيجابي.
وبرغم أنَّ المشاعر الإيجابية تستحق تنميتها، إلَّا أنَّ المشكلة تظهر عندما يبدأ الناس في الاعتقاد بأنَّ عليهم أن يكونوا متفائلين طوال الوقت.
يُشكِّل كلٌ من الغضب والحُزن في الحقيقة جزءًا هامًا من الحياة، ويوضِّح بحثٌ جديد أنَّ الشعور بمثل تلك المشاعر وتقبُّلها أمرٌ حيوي لصحتنا العقلية.
يمكن لمحاولة قمع الأفكار أن يأتي بنتائج عكسية، بل ويُقلِّل من شعورنا بالرضا.
يقول عالم النفس بكلية فرانكلين دبليو أولين للهندسة جوناثان أدلر Jonathan M. Adler: «ربما يكون الاعتراف بتعقيد الحياة مسارًا مُثمِرًا على نحوٍ خاص للصحة النفسية».
يمكن للأفكار والمشاعر الإيجابية بالطبع أن تُفيد الصحة العقلية، تُعرِّف نظريات منهج اللذة السلامة النفسية بأنَّها وجود المشاعر الإيجابية والغياب النسبي للمشاعر السلبية والإحساس بالرضا عن الحياة.
ولكن هذا التعريف المُتطرِّف ليس متوافقًا مع فوضى الحياة الحقيقية.
بالإضافة إلى أنَّ نظرة الناس قد تصبح ورديةً لدرجةٍ تجعلهم يتجاهلون المخاطر أو يُصبِحون قنوعين غير واعين بما حولهم.
بينما تؤكِّد المناهج التي تستهدف السعادة على الجانب الآخر, على المعنى والنمو الشخصي وفهم النفس؛ وهي أهداف تتطلَّب مواجهة مصائب الحياة.
المشاعر المزعجة حيوية بنفس قدر المشاعر الممتعة في مساعدتك على فهم منحنيات الحياة.
ويقول أدلر: «تذكَّروا أنَّ أحد الأسباب الرئيسية لامتلاكنا مشاعر في المقام الأول هو مساعدتنا على تقييم تجاربنا».
تساعد المشاعر السلبية أيضًا على الأرجح في بقائنا، فيشير أدلر إلى أنَّ المشاعر السيئة قد تكون أدلة حيوية على مشكلة صحية أو علاقة أو أمر هام آخر يحتاج إلى انتباه المرء.
قد تساعد قيمة الأفكار والمشاعر السلبية من حيث البقاء على تفسير سبب عدم جدوى قمعها.
طلب عالم النفس ديفيد كافاناغ David J. Kavanagh من جامعة كوينزلاند للتكنولوجيا بأستراليا وزملاؤه في دراسةٍ عام 2009 من أشخاصٍ يخضعون للعلاج من إدمان الكحول أن يكملوا استبيانًا يُقيِّم رغباتهم ودوافعهم المرتبطة بالشُرب، بالإضافة إلى أيِّ محاولات لقمع الأفكار المرتبطة بالخمر على مدار الـ24 ساعة السابقة.
وجدوا أنَّ أولئك الذين حاربوا الأفكار التطفُّلية المرتبطة بالكحول هم الذين لجؤوا إلى المزيد منه.
وتقترح نتائج مُشابهة من دراسة أخرى أُجرِيت عام 2010 أنَّ دفع المشاعر السلبية قد يتسبَّب في الإفراط في الطعام لأسباب عاطفية أكثر من الاعتراف ببساطة بأنَّك منزعجًا أو غاضبًا أو حزينًا.
حتى إذا تجنَّبتَ التفكير في موضوعٍ ما بنجاح، ربما يظل عقلك الباطن يُفكِّر فيه.
وقد قال عالم النفس ريتشارد برايانت Richard A. Bryant وزملاؤه بجامعة نيو ساوث ويلز بسيدني في دراسةٍ عام 2011 لبعض المُشاركين دونًا عن البعض الآخر أن يقمعوا فكرةً غير مرغوب بها قبل النوم.
وقال أولئك الذين حاولوا كتم الفكرة أنَّهم قد حلموا بها أكثر، وهي ظاهرة تُدعى الحلم الارتدادي Dream Rebound.
بل قد يكون قمع الأفكار والمشاعر حتى ضارًا، إذ قاس المعالج النفسي إريك غارلاند Eric L. Garland من جامعة فلوريدا الحكومية وزملاؤه في دراسة عام 2012 الاستجابة للضغط بناءً على نبض القلب عند 58 شخصًا بالغًا يخضعون للعلاج من إدمان الكحول مع تعريضهم لمحفِّزات مرتبطة بالكحول.
كما خضع المُشاركون لقياسٍ لميلهم إلى قمع الأفكار. وجد الباحثون أنَّ أولئك الذين قيَّدوا تفكيرهم أكثر كانت لديهم استجابات أقوى للمُحفِّزات من أولئك الذين قمعوا أفكارهم أقل.
تقبُّل الألم
تقبَّل المشاعر السلبية بدلًا من الابتعاد عنها، واعترف بشعورك دون الإسراع إلى تغيير حالتك الشعورية.
يجد الكثير من الناس التنفُّس ببطءٍ وعُمقٍ مفيدًا عند تعلُّم التسامح مع المشاعر القوية أو تخيُّل المشاعر كأنَّها سُحُبٍ طافية، لتُذكِّرهم بأنَّها ستَمُر.
أقول لعملائي غالبًا أنَّ الفكرة هي مُجرَّد فكرة والشعور هو مُجرَّد شعور، ليس أكثر.
إذا كان الشعور غامرًا، ربما ترغب في التعبير عن كيف تشعر في دفتر يوميات أو لشخصٍ آخر. ربما يُغيِّر التمرين منظورك ويمنحك إحساسًا بخاتمة الأمر.
إذا طال الانزعاج، فكِّر في اتِّخاذ إجراءٍ ما. ربما ترغب في إخبار صديقك أنَّ تعليقه كان جارحًا، أو تتَّخذ خطوات لترك الوظيفة التي تجعلك بائسًا.
يمكن أيضًا أن تحاول القيام ببعض تمارين اليقظة الذهنية لمساعدتك على أن تُصبِح واعيًا بتجربتك الحاضرة دون الحُكم عليها.
من الطُرُق الممكنة لتبنِّي هذه الحالة التركيز على تنفُّسك مع التأمُّل وإدراك أي أفكار أو مشاعر طافية ببساطة. ربما تُسهِّل هذه الممارسة من تقبُّل الأفكار المزعجة.
وجد غارلاند وزملاؤه في العام الحالي أنَّه من بين 125 شخص لهم تاريخ من الصدمات وكانوا يخضعون أيضًا للعلاج من إدمان المُخدِّرات، كان أولئك الذين يتمتَّعون باليقظة الذهنية بصورةٍ طبيعية يتكيَّفون على نحوٍ أفضل مع صدمتهم ويرغبون في مُخدِّرهم أقل من غيرهم.
وكذلك في دراسة أجرتها عالمة النفس شانون ساور زافالا Shannon Sauer-Zavala من جامعة بوسطن وزملاؤها في عام 2012 وجدت أنَّ العلاج الذي يشمل التدريب على اليقظة الذهنية يساعد الأفراد على تخطِّي اضطرابات القلق.
لم ينجح العلاج بتقليل عدد المشاعر السلبية، وإنَّما بتدريب المرضى على تقبُّل تلك المشاعر.
تقول شانون: «من المستحيل تجنُّب المشاعر السلبية تمامًا لأنَّه لكي يحيا المرء عليه المرور بالانتكاسات والصراعات»، وتُضيف أنَّ تعلُّم كيفية التكيُّف مع تلك المشاعر هو مفتاح الحل.
بمُجرَّد أن تقبَّل عميلي أفكاره ومشاعره بالطبع وتخلَّص من خجله وشعوره بالذنب، رأى مشاكله بوضوحٍ أكبر واستمر في الطريق نحو التعافي.