للمرّة الأولى أجرى العلماء تجربة فيزيائية بالبوزيترون، وهو المادة المضادة للإلكترون، وهو أحد الجسيمات الأساسية. لم يحصلوا فقط على بعض النتائج المثيرة للاهتمام، ولكن هذا الإنجاز يمكن أن يصبح الخطوة الأولى نحو اكتشافات ثورية محتملة.
نُفِّذَت هذه التجربة -وهي نسخة تستخدم المادة المضادة- من تجربة الشقّ المزدوج الشهيرة، قام بها باحثون من سويسرا وإيطاليا لوضع الأساس لسلسلة جديدة من التجارب الحسّاسة للغاية والتي قد تساعد في حل لغز يتعلّق بمجالي المادة في الكون.
يهيمن على حياتنا اليومية شكل واحد نسميه ببساطة المادة. لكن كل عضو في المجموعة الكبرى للجسيمات الأساسية لديه توأم مضاد يشترك في معظم خصائصه بصرف النظر عن شحنة معاكسة وقليل من الصفات الكمّية الأخرى. اجمع هذين النوعين من المادة معًا وسوف يختفيان في نفثة من الطاقة، ما يثير بعض الأسئلة المثيرة للاهتمام. إذا كنّا محاطين بنوع واحد من المادة فهل يعني ذلك وجودها بكمّيات أكبر من مضادها؟ وإذا كان الأمر كذلك ما الذي يجعل كل منها مميّزًا؟ حتى الآن فشلت أفضل محاولاتنا للعثور على إجابات في إظهار حتى أصغر فكرة.
ما زال نوعا المادة متطابقين. وفقا للنموذج القياسي لفيزياء الجسيمات يجب أيضًا أن تمتثّل المادة المضادة لقوانين الجاذبية بنفس الطريقة تمامًا مثل المادة الطبيعية. ويوجد بعض المحاولات التجريبية لمقارنة نوعي المادة تدعم النظرية. هذا لا يمنع الفيزيائيين من إيجاد طرق جديدة للبحث عن الثغرات، ليس عندما يكون وجود الكون على المحكّ!
حتى أبسط اختلاف في كيفية تأثير الجاذبية على المادة المضادة قد يكون الاكتشاف الكبير الذي نحتاجه. لكن الجاذبية هي قوة ضعيفة بشكل كبير ما يُصعّب التحقّق، وذلك ما يقودنا إلى واحدة من أكثر التجارب الكلاسيكية في الفيزياء التي توصّل إليها الفيزيائيون مع جزيئة المادة المضادة، وهي تجربة الشقّين والجسيم الواحد التي ستدخلك في عالم كامل من العصف الذهني.
لقد اختبرنا كيفية مرور الضوء من خلال النوافذ الرقيقة مقطّعةً إلى ألواح لعدة قرون. قبل مئتي عام أضاف فيزيائي يدعى توماس يونغ نافذة ثانية موازية للأولى، وأظهر أن النمط المتموّج هو الضوء على الجدران خلف الشقوق، وكان علامة على أن الضوء يتكوّن من موجات تتداخل مع بعضها البعض. وبعد قرن ونصف عندما ظهر اسم كبير آخر في الفيزياء، ريتشارد فاينمان، اعتبر تجربة يونج (الشقّ المزدوج) صالحة للمادة.
توجد جزيئات مثل الإلكترونات كموجات من الاحتمالات حتى يتم قياسها ومنحها الخصائص، بما في ذلك الوضع الدقيق. إذن، إذا لم يقس أحد الإلكترون فهل يمكنه أن يمر عبر الفتحات مثل الموجة والانقسام وإصلاح نفسه والتداخل مثل الضوء؟ نعم هذا ما يحدث بالضبط.
في حين أُجريت تجارب مختلفة باستخدام تيارات الإلكترونات في العقود التالية لتجربة فاينمان الفكرية، يتمكّن الباحثون اليابانيون في شركة هيتاشي في عام 1989 ولأول مرة من إطلاق إلكترونات وحيدة على الشاشة الواحدة تلو الأخرى. منذ ذلك الحين حصلنا على نفس الغموض الكمي لجميع أنواع الجسيمات بما في ذلك الجزيئات الكاملة. كلهم يُبدون طبيعة متباينة من المادة، مهما كانت المادة كبيرة فسيكون لها سلوك شبيه بالموجة.
المادة المضادة قصّة أخرى كاملة. إنها ليست أسهل مادة في الكون للاستفادة منها، لذا في حين أنه من الناحية النظرية يجب أن تكون أيضًا مثل موجة، لكن لم يسبق أن تمت ملاحظتها تقوم بذلك.
لإجراء هذه التجربة، استخدم الباحثون منشأة في إيطاليا تسمّى L-NESS، حيث أجروا التجارب على السليكون. رُشِّحَت البوزيترونات -وهي إلكترونات ذات شحنة موجبة بدلًا من شحنة سالبة- من مادة مشعّة متحلّلة وبُثَّت من خلال مقياس تداخل يحوي شقّين يدعى تالبوت-لاو. هذا هو شكل أكثر تعقيدًا قليلًا لشاشة وزوج من الشقوق، ولكنه يرقى إلى نفس الشيء. بعد 200 ساعة من توهج البوزيترون، حلّل الفيزيائيون النمط المتموّج ووجدوا أن البوزيترونات الفردية تظهر بمثابة موجات عندما لا ينظر أحد، تمامًا كالمادة العادية. في الوقت الحالي، إنه دليل على المفهوم وليس دليلًا نهائيًا يمكن استخدامه لمقارنة المادة والمادة المضادة، كما أنه لم يُراجَع بعد، وهو متاح للجميع للقراءة على موقع arxiv.org قبل النشر. لكنها خطوة مثيرة نحو فصل جديد في أبحاث المادة المضادة.
إذا كانت البوزيترونات تعاني حتى من أصغر اختلاف في الجاذبية فإننا سنحتاج إلى بعض الأدوات الحساسة جدًّا للعثور عليها. اختبار مثل هذا لن يكون مضمونًا لتحديد مثل هذه الحالات الشاذة، لكنه قد يؤدي إلى أنواع التجارب شديدة الحساسية التي نحتاجها للقضاء على هذا اللغز الصعب، فأنماط التداخل هي ما نستخدمه لاكتشاف أصغر تمايل ناجم عن موجات الجاذبية. الخطوة التالية هي جمع المزيد من البيانات التي قد تساعد فقط في توضيح سبب وجود شيء بدلًا من لا شيء. نأمل ألّا يكون ذلك بعيدًا جدًّا، فنحن نحاول اكتشاف سبب وجودنا هنا.
- ترجمة: أحمد طريف المدرس
- تدقيق: علي فرغلي
- تحرير: زيد أبو الرب