اشتهر فيلم لوسي لدعمه فكرة استخدام البشر جزءًا محدودًا من الدماغ. أدت الممثلة سكارليت جوهانسون دور البطولة، واستطاعت -في الفيلم- زيادة نسبة استخدامها لدماغها بدءًا من النسبة التي ادعوا كونها القيمة الطبيعية، أي أقل من 10%، حتى 100%، بواسطة مادة علمية خيالية. انتشرت أسطورة «استخدام 10% من الدماغ» -إن صح التعبير- منذ أمد. صرّح مخرج فيلم لوسي «لوك بيسون» أن فيلمه مجرد خيال قائم على القليل من العلم، هذا إن وُجد.
يعرض الفيلم قضية زيادة قدرة البشر فوق الحدود الطبيعية حتى 100% من الدماغ، وما يرافقها من سلبيات، فيصوّر السلوك السيء لشخصية عديمة الرحمة تحولت إليها البطلة. كما سنرى، توجد أسباب علمية عصبية وراء بقاء أدمغتنا في الحيز الطبيعي للنشاط أو أقل منه، هذا هو الأفضل لنا.
استخدم العديد من الكتّاب المهمين الفيلم وسيلةً لنقض أسطورة العشرة بالمئة. ودعموا كلامهم بأننا نستخدم معظم دماغنا طوال الوقت. نُقل عن طبيب أعصاب بارز من كلية الطب بجامعة جونز هوبكنز قوله: «نحن نستخدم جميع أجزاء دماغنا نظريًا. معظم الدماغ نشط طوال الوقت».
الحقيقة أن هذا الادعاء غير دقيق هو الآخر، ويمكن أن نسميه أسطورة استخدام 100% من الدماغ. في الواقع، إن الادعاء القائم على أسطورة العشرة بالمئة هو مرجع جيد لفهم كيفية عمل الدماغ ولتصوّر النمط الحقيقي لعمله.
نحن غالبًا نستخدم أكثر من مجرد 10% من عصبونات أدمغتنا، إلا أن ما نستخدمه أقل من 100% كذلك. من الصعب تقدير نسبة دقيقة لأننا لا نستطيع قياس نشاط هذا الكم الهائل من العصبونات عند كائن مستيقظ. إجراء القياس معقد حتى عند الكائنات الأبسط كالفئران، فما بالك بإجراء قياسات على أدمغة البشر؟ إنه شبه مستحيل.
أُجريت حديثًا قياسات دقيقة لعشرات العصبونات، ونادرًا للمئات أو الآلاف منها. ويحرز علماء الأعصاب تطورًا ملحوظًا في الآونة الأخيرة.
سنة 2020 نشر فريق بحثي ضخم بقيادة ساسكيا دي فريس من معهد ألين لعلوم الدماغ، دراسةً لاقت رواجًا في الأوساط العلمية، أعطت هذه الدراسة تقديرًا دقيقًا لأنماط نشاط الخلايا العصبية على مقياس كبير نسبيًا في دماغ الفأر. قاس الباحثون النشاط في أماكن عديدة من القشرة المخية واستطاعوا تسجيل نشاط 60 ألف عصبون. سُجل النشاط في أثناء جري الفئران على عجلة الجري، وأظهروا لهم صورًا ومقاطع فيديو، مع توفير كل ما يلزم لحياة طبيعية للفئران. لا يشكل 60 ألف عصبون رقمًا يُذكر في دماغ الفأر، بل هو أقل من 0.1% منه، ومن الواضح أن دماغنا يفوقه تعقيدًا بأشواط.
لم لا يُستخدم تصوير الدماغ بدلًا من ذلك؟ هذا يعطينا صورًا ملونة جذابة للدماغ بالكامل، ويمكن استخدامه عند الإنسان مباشرةً. المشكلة أن تقنيات تصوير الدماغ مثل الرنين المغناطيسي الوظيفي وغيرها تفتقر إلى الدقة الضرورية. فهي تلخص النشاط المجمل في عدد كبير من الخلايا العصبية، وعلى فترات طويلة نسبيًا.
في تجربة الرنين المغناطيسي الوظيفي تمثل كل وحدة بيانات الاستجابة العصبية في مكعب بحافة 1 مم فقط. يحتوي كل مكعب مئات آلاف أو ملايين العصبونات. لهذا لا يظهر العصبون الذي يعمل بوضوح، بل تظهر منطقة مضيئة كاملة مثل اللوزة الدماغية.
رغم قدرة الماسح الدماغي في تلك التقنية على إعطاء قفزة مفاجئة كل ثانية، فإن مجموعة العصبونات تعمل أسرع بكثير، إذ تستطيع تشكيل عدد لا نهائي من أنماط الاتصالات بينها مئات المرات، وهذا ما يعجز الماسح الدماغي عن رصده.
يعتمد الداعمون لأسطورة استخدام 100% من الدماغ على فكرة البيانات الناتجة عن التصوير الدماغي ويظنون أن الدماغ بأكمله يعمل لأنه يضيء بالكامل أحيانًا، وهذا محل جدال.
الحقيقة أن تغير الإشارة صغير للغاية في كل فوكسل يعرضه الجهاز، فهو ينشط فور تغير نسبة ضئيلة من العصبونات. الإضاءة تحدث بسبب نشاط عدد من العصبونات ضمن فوكسل ما، وفي لحظة معينة لا تضيء بعض المناطق، لأن معظم العصبونات فيها هامدة، ما يدل على أن النشاط في تلك اللحظة أقل من 100%، لكن لا يمكن الجزم بشأن كون بعض العصبونات هامدة تمامًا ولا تعمل أبدًا.
على المقياس الدقيق الذي اتبعه فريق دي فريس نستطيع رؤية ما يحدث بالتفصيل بواسطة تقنيات تصوير دقيقة تطلبت التدخل الجراحي في النسيج الدماغي للفئران. وجد الباحثون أن 23% من العصبونات المدروسة لا تستجيب للمنبهات البصرية. تضمنت المنبهات مجموعة متنوعة من المناظر الطبيعية من حول العالم وأفلام الطبيعة ومقاطع من فيلم كلاسيكي. وجربوا الكثير من الصور الاصطناعية لنقاط وخطوط متناوبة، لكن الأمر لم يفلح في تنبيه العصبونات المذكورة. أعطت تلك العصبونات إشارةً كل فترة، لكن دون تواتر محدد.
لم تتأثر العصبونات الهامدة بالحركة ولا السطوع ولا التباين. ولكن، إذا كان الموضوع مشابهًا عند البشر وكان دماغنا يحوي عصبونات لا تؤدي أي وظيفة معروفة وتشكل نسبة 23%، فهل نزعم أننا لا نستخدم تلك العصبونات؟
قد تستجيب تلك العصبونات لبعض الصور أو الأفلام التي لم تتضمنها الدراسة. وقد تكون هذه العصبونات متضمنة في عملية الرؤية لكنها متخصصة في تمييز الروائح القوية أو الأصوات العالية مثلًا. ما يسعنا قوله هو أن ربع عصبونات دماغ الفأر تقريبًا تؤدي القليل أو حتى لا تؤدي أي وظيفة نعرفها.
في دراسة أخرى على أجزاء القشرة الدماغية المسؤولة عن السمع عند الفئران، وجد الباحثون أن 10% فقط من العصبونات استجابت فعليًّا للمنبهات الصوتية. لم تتضمن الدراسة كل أنواع الأصوات الممكنة، لذا فربما تستجيب بعض العصبونات الأخرى لمنبهات صوتية مختلفة عما وُجد في الدراسة، وقد تستجيب لمنبهات غير صوتية.
تشير الخلايا العصبية الهامدة في الدراسة الثانية إلى أن بعض العصبونات هامدة غالبًا، هذه المشكلة معروفة لدى علماء الأعصاب منذ زمن، وهذا سبب اتجاه الدراسات الحديثة إلى محاولة فهم العصبونات التي لا تستجيب للمحفزات. وضع بعض العلماء تقديرات عالية لعدد العصبونات الهامدة، مثل عالم البيولوجيا العصبية ساك أوفسبيان الذي اعتمد على تقارير سابقة مفادها أن نسبة الجزء المسمى بالمادة العصبية القاتمة تبلغ 60 – 90%.
السؤال هنا: ما سبب وجود هذه العصبونات إذا لم يكن لها فائدة؟ أليس هذا هدرًا؟ وجد علماء البيولوجيا التطورية تفسيرًا لهذه الظاهرة استنادًا إلى قواعد نظرية التطور الداروينية، وهو أنه خلال تعاقب الأجيال، لم تخضع العصبونات غير النشطة إلى ضغوط انتقائية تسبب تخلص الطبيعة من ممتلكي تلك العصبونات. لذلك بقيت العصبونات الزائدة في أدمغة الكائنات. وأصبحت تشكل احتياطًا يمكن استدعاؤه ليحل بديلًا عند حدوث ضرر دماغي، وقد تكون مفيدة للكائنات في مواجهة التحديات غير المسبوقة التي تفرضها الطبيعة عند الدخول إلى بيئة جديدة.
تجدر الإشارة إلى أن العصبونات المؤلِّفة للمادة الداكنة ليست مجتمعة معًا ولا تشكل حزمًا كبيرة من مساحة غير معروفة في دماغك. بل تتخللها خلايا «ساطعة» أو نشطة للغاية ضمن القشرة المخية وفي أماكن أخرى من الدماغ، أي أنه يوجد بالتأكيد كمية متفرقة من تلك المادة في دماغنا. استنادًا إلى الطاقة والمواد المستهلكة في العملية الاستقلابية للبشر، يظن العلماء أن أكثر من نصف العصبونات لا تنشط أبدًا. وفي دراسة فريس، أظهر الباحثون أن 77% من العصبونات تؤدي وظيفةً مفيدة.
اقرأ أيضًا:
وجد العلماء الطريقة التي تستطيع الخلايا العصبية خلالها نقل المعلومات إلى عدة أجيال
اكتشاف غير متوقع يمكن لدماغ شخص بالغ تجديد بعض الخلايا العصبية!
ترجمة: ليلى حمدون
تدقيق: سماح عبد اللطيف
مراجعة: أكرم محيي الدين