أهداف العلم في تحول دائم فالإنجاز ليس مطلقًا أبدًا، ويشكل كل اكتشاف جديد مدخلًا إلى سلسلة متتالية من الاكتشافات الأخرى في سعينا لفهم الكون. الثقب الأسود الهائل M87* ليس استثناءً.

كانت صورة هذا الثقب الأسود أول صورة مباشرة تراها البشرية لظل الثقب الأسود، وهو إنجاز مذهل للغاية لمئات من العلماء على مدار سنوات كثيرة.

حلل العلماء بالتعاون مع مقراب أفق الحدث تلك الحلقة المتوهجة من الضوء الذهبي القادم من مسافة 55 مليون سنة ضوئية، ووجدوا دليلًا على استقطاب قوي، التواء تجاه موجات الضوء الناجم عن الحقول المغناطيسية القوية في المنطقة المحيطة بالثقب الأسود.

قال عالم الفلك إيفان مارتي فيدال من جامعة فالنسيا: «يُعد هذا العمل حدثًا رئيسيًا، إذ يحمل استقطاب الضوء في طياته معلومات تتيح لنا فهمًا أفضل للفيزياء المنتجة للصورة التي رأيناها في أبريل 2019، التي لم تكن ممكنة من قبل. تطلب الكشف عن هذه الصورة الجديدة ذات الضوء المستقطب سنوات من العمل بسبب التقنيات المعقدة المتضمنة في تحصيل البيانات وتحليلها».

الاستقطاب هو سلوك معروف ومفهوم للإشعاع الكهرومغناطيسي، عندما ينتقل جسيم الضوء عبر الفضاء، تتجه اهتزازاته باتجاه معين. فمثلًا إذا تبعثر بواسطة غبار في وسط بين نجمي، أو دار بواسطة مجال مغناطيسي، قد يتغير اتجاهه، نعرف ذلك التغيير بالاستقطاب.

إنها خاصية يمكننا الاستفادة منها تقنيًا، فمثلًا توجد واقيات الشاشة المستقطبة والنظارات الشمسية، لكنها قد تخبرنا بشيء عن بيئة الفضاء عندما نراها منبعثةً من الأجسام الكونية.

الثقب الأسودM87*هو شكل المجال المغناطيسي وبنيته في حيز الغاز الذي يدور مباشرةً حول الجزء الخارجي من أفق حدث الثقب الأسود. وجد الفريق أن استقطاب الضوء الذي يمكن رؤيته في صورة M87* لا يمكن تفسيره إلا بوجود مجال مغناطيسي قوي جدًا.

قال عالم الفلك جيسون ديكستر من جامعة كولورادو بولدر: «تشير البيانات إلى أن المجالات المغناطيسية عند حافة الثقب الأسود قوية بما يكفي لدفع الغاز الساخن للخلف ومساعدته على مقاومة سحب الجاذبية. الغاز الذي ينزلق عبر المجال يمكنه فقط أن يتدفق إلى الداخل نحو أفق الحدث».

قد يكون هذا مفتاحًا لفهم ظاهرة ظلت لغزًا فترةً طويلة، وهي نفثات الثقب الأسود النسبية.

ما من شيء يمكننا اكتشافه حاليًا قادر على الهروب من الثقب الأسود فور تجاوز العتبة الحرجة، لكن ليس كل المواد الموجودة في قرص التراكم الذي يدور حول الثقب الأسود النشط تنتهي حتمًا إلى ما وراء أفق الحدث. يوّجه جزء صغير منها بطريقة ما من المنطقة الداخلية لقرص التراكم إلى القطبين، إذ يُدفع إلى الفضاء على شكل نفثات من البلازما المتأينة، بسرعات تقترب من سرعة الضوء.

يظن علماء الفلك أن المجال المغناطيسي للثقب الأسود يؤدي دورًا في هذه العملية. تعمل خطوط المجال المغناطيسي وفقًا لهذه النظرية بمثابة مسرع دوراني تزامني، يعمل على تسريع المادة قبل إطلاقها بسرعة هائلة.

صورة المقراب الكبير للمجرة M87، تظهر نفثة الثقب الأسود نحو اليمين

صورة المقراب الكبير للمجرة M87، تظهر نفثة الثقب الأسود نحو اليمين

نعلم أن الثقب الأسودM87*يطلق هذه النفثات النسبية عند مستوى 99٪ من سرعة الضوء. الحلقة الذهبية المتوهجة التي يمكننا رؤيتها في صورة M87* هي تلك الحافة الداخلية لقرص التراكم، ما يوفر للعلماء نافذة فريدة لرؤية هذه العملية.

قالت عالمة الفلك مونيكا موسكيبرودزكا من جامعة رادبود: «نرى الآن الجزء المهم التالي من الأدلة لفهم كيفية تصرف الحقول المغناطيسية حول الثقوب السوداء، وكيف يقود النشاط -في هذه المنطقة المضغوطة جدًا من الفضاء- نفثات قوية تمتد إلى ما وراء المجرة».

قال الباحثون إن بنية المجال المغناطيسي المرصودة قد تنتج كل من السمات المرصودة لحلقة M87*، والنفثات النسبية القوية التي تطلقها نحو الفضاء. يُعد ذلك من أفضل الأدلة التي تدعم نموذج المجال المغناطيسي بوصفه مسرع دوراني تزامني للنفثات النسبية حتى الآن.

سيركز التحليل في المستقبل على المجالات المغناطيسية حول منطقة إطلاق النفثات بالقرب من أفق حدث الثقب الأسودM87*.

اقرأ أيضًا:

طريقة واحدة تمكن الإنسان من دخول الثقب الأسود بأمان

إلى أي مدى قد تصل ضخامة الثقب الأسود؟

مرصاد “أفق الحدث” يكشف عن المجال المغناطيسي للثقب الأسود المركزي لمجرة درب التبانة!

ترجمة: رولان جعفر

تدقيق: لبنى حمزة

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر