لقد مكنتنا أمواج الجاذبية من رؤية اصطدام النجوم النيترونية.
وصلت في البداية موجات الجاذبية, ومن ثم انفجار من موجات أشعة غاما, ومع حلول الليل في تشيلي, التقط تليسكوبٌ صغيرٌ إشاراتٍ من السماء، وتم رصد أول نجم نيتروني تم سحقه، لتتحول نتائج هذه العملية إلى أمواج جاذبيةٍ، وبعد ساعاتٍ من التقاط الإشارات الأولى من مرصد الموجات الثقالية بالتداخل الليزري (ليغو) في هانفورد، واشنطن، في 17 آب / أغسطس, تحولت أنظار وتركيز حوالي 70 تليسكوب، ومرصد في جميع أنحاء العالم، وحتى في الفضاء إلى المكان نفسه في كوكبة هيدرا، يقول المتحدث باسم (ليغو) ديفيد شوماكر(David Shoemaker ): “أنا لا أعتقد أنه لا يجب اعتبار هذا الحدث الفلكي هو الأكثر رصدًا من بين الأحداث الفلكية, إنه حديث مثيرٌ, وعاطفيٌ قليلًا” ويضيف قائلًا: “لدينا تعاونٌ وعملٌ مع ربع أو حتى ثلث علماء الفلك في جميع أنحاء العالم”.
لقد دلت هذه الموجات للجاذبية على أول حدثٍ يتم رصده غير أحداث اندماج الثقوب السوداء الثنائية, وهو أول دليل على حدوث اندماج نجمين نيترونيين، والذي سبب انفجارات موجات أشعة غاما, كما يعد أول رؤية لتشكل العناصر الثقيلة، وأولى القياسات لتوسع الكون، وذلك باستخدام موجات الجاذبية.
ومنذ أن بدأ الاستماع لاضطرابات نسيج الزمكان, فإن مرصد (ليغو) قد استمع إلى خمس إشارات لموجات الجاذبية، تشكلت من اندماج أزواجٍ من الثقوب السوداء، وأرسلت هذه الموجات عبر الكون, ولكن لم يتم رصد موجات جاذبية تشكلت من أي جسم كوني آخر، يقول نيلسون كريستنسن (Nelson Christensen) في كلية كارلتون بولاية مينيسوتا: “لقد اعتقدنا منذ البداية أننا سنرى النجوم النيترونية الثنائية، وها نحن قد حققنا ذلك, وقد بدا ذلك مذهلًا ورائعًا”.
ورغم أن الكاشف (Virgo) في إيطاليا لم يرصد بشكلٍ مباشرٍ موجات الجاذبية لأنها كانت تقع في نقطة عمياء بالنسبة له, لكنه ساعد في تحديد موقعها بدقةٍ كافيةٍ؛ كي تساعدنا التلسكوبات البصرية في البحث, يقول كريستنسن: “لقد كانت مثل لعبة السهام”, ويضيف: ” لقد قمنا فقط بتضييق مجال البحث، ومن ثم حصلنا على الهدف بمساعدة الكشف البصري”.
لقد نظرنا إلى عملية السحق هذه عبر موجات الطيف الكهرومغناطيسي، ابتداءً من موجات الراديو وصولًا إلى موجات أشعة غاما, وقد كانت هذه المرة الأولى التي تم رصد حدوث انبعاث لموجات الجاذبية، وموجات الضوء معًا.
وقدمت موجات الجاذبية لنا معلوماتٍ حول الأحداث الداخلية لعملية الاصطدام, بينما تم التقاط صورٍ عبر أطوال مختلفةٍ لموجات الضوء, بما في ذلك الصور من تلسكوب هابل الفضائي, وقد بينت هذه الصور سحابة الناتجة من البلازما الساخنة والغاز, التي جعلتنا نحدد بدقةٍ مكان هذا الاصطدام.
صفارة الإنذار المعيارية.
إنه في حال اعتبار أن النجوم النيترونية هي أصغر بكثير من الثقوب السوداء، ستحتاج إلى كتلةٍ تساوي أقل من ضعف كتلة الشمس؛ كي تكون قريبةً كفايةً منا، وتجعلنا نستطيع رؤية اندماجها وإنتاجها للموجات في نسيج الزمكان، لقد كان هذا الزوج من النجوم النيترونية يبعد عنا فقط 130 مليون سنة ضوئية، وهو أقرب إلينا بـ 10 أضعافٍ من أقرب مصدرٍ تم رصده لموجات الجاذبية.
كما كشفت الموجات المنتجة في هذا الاصطدام الكوني السرعة التي يتسع فيها الكون، إذ عادةً ما يتم حساب تلك السرعة عن طريق قياس مدى سرعة المستعرات العظمى، أو النجوم ذات اللمعان المعروف، التي تسمى بالشموع المعيارية أثناء تحركها بعيدًا عنا, ولقد استخدم مرصد (ليغو) موجات الجاذبية؛ ليؤكد الحسابات السابقة لهذه السرعة.
تقول المتحدثة باسم ليغو لورا كادوناتي ( Laura Cadonati): “عادةً ما كنا نقيس توسع الكون باستخدام نجوم (الشموع المعيارية) والآن لدينا مقياسٌ آخر هو: (صفارات الإنذار المعيارية)”.
إن موجات الجاذبية وحدها لا تستطيع أن تحدد نوع الأجسام الذي يرسل الموجات إلينا، إذ يمكن للمرصد (ليغو) أن يقدم معلوماتٍ حول حجم هذا الأجسام وسرعاتها, وقد تراوحت كتلة هذين الجسمين ما بين كتلةٍ إلى كتلتين شمسيتين؛ لذلك إما أن يكونا نجومًا نيترونية، أو ثقوبًا سوداء صغيرة، ولكن تثبت جميع الأرصاد عبر جميع الأطوال الموجية أنها بالفعل نجوم نيترونية.
يقول إيدو بيرجر ( Edo Berger) في جامعة هارفارد: “يحدث اصطدام المواد من خلال أسطح الأجسام, وهذا لن يحدث في حال كان أحد الجسمين أو كلاهما لا يمتلك سطحًا، إن الثقوب السوداء لا تمتلك سطحًا, وفقط لديها أفق حدث”.
رؤية تشكل العناصر الثقيلة.
يقول بيرغر: “إن رقصة دوران هذه الأجسام حول بعضها البعض مدتها 11مليار سنة, وفي لحظة فإن جحيم الاصطدام يقوم بتدمير كل شيء”.
لقد شاهد علماء الفلك في الانفجار الكوني الذي يطلقون عليه اسم: (كيلونوفا – kilonova) لأول مرةٍ إشاراتٍ تشكل العناصر الثقيلة، إذ تقوم النيترونات المنبعثة من النجوم المندمجة بضرب الذرات الخفيفة القريبة منها، يقول أندرو ليفان ( Andrew Levan) من جامعة وارويك بالمملكة المتحدة: “لقد اشتبه العلماء منذ فترةٍ طويلةٍ بأن العناصر الثقيلة تتشكل من اندماج النجوم النيترونية, ولكن هذه أول مرة يتم التثبت من مكان حدوث تلك العملية”, ويقول: “إن هذا الاندماج قد أدى إلى تشكل كتلة الذهب الموجودة في الأرض، بالإضافة إلى العناصر الثقيلة الأخرى، مثل: البلاتين، والرصاص، واليورانيوم”.
وما تبقى من جراء هذا الاصطدام، هو عبارةٌ عن سحابةٍ غامضةٍ من المواد الثقيلة، وفي كل مرةٍ يتحطم نجمان معًا، يشكلان نجمًا نيترونيًا أكبر، أو ينهارا إلى أن يصبحا ثقبًا أسود، يقول بيرغر: “إن العديد من علماء الفلك المشاركين في الاكتشاف يعتقدون أن الاصطدام أدى إلى تشكل ثقبٍ أسود, وأن انفجار موجات أشعة غاما قد حدث بعد ذلك من المواد التي امتصها ذلك الثقب, وعلى كل حال إنه ما من طريقةٍ للتأكد من صحة هذا الاعتقاد”.
ولكننا نعلم الآن بأننا سنشهد لسنواتٍ عمليات اندماج النجوم النيترونية، طالما أننا نراقب انفجارات موجات أشعة غاما القصيرة، إن انفجار موجات أشعة غاما، قد أُنتج من نجمين نيترونيين قريبين تم رصدُهما لأول مرة على الإطلاق, وهو مشابهٌ لعددٍ قليلٍ من أقرانه في جميع أنحاء الكون.
المرة الأولى لكل شيء.
يقول شين لارسون ( Shane Larson) من جامعة نورث ويسترن في إلينوي: “إن انفجار (كيلونوفا – kilonova) قد استمر لمدةٍ طويلةٍ من الزمن، امتدت من أيام إلى أسابيع أو حتى لأشهر”، ويضيف: ” سنكون قادرين على رسم تفاصيل هذا الانفجار بدقةٍ، وذلك لأن المراصد في العالم لا تزال تراقبها”.
ويقول كادوناتي: “إن الزيادة التي ستحدث في حساسية المرصد (ليغو) في السنوات القليلة القادمة, ستساعد على رصد اندماج نجمين نيترونيين في كل أسبوع، إضافةً إلى التقاط إشاراتٍ لأجسامٍ كونيةٍ أخرى، كالمستعرات العظمى، أو الأوتار الكونية”.
ويقول بيرغر: “سيكون هناك العديد من المفاجآت عند رؤيتنا للعديد من هذه الأحداث, وسيبقى للحدث المرصود أولًا مكانةٌ خاصة” ويضيف: “إن هذه واحدة من الحالات التي يصعب تتبع إشارتها الأولى”.
ولعل الأهم من كونها المرة الأولى التي نرى فيها الضوء، ونستمع إلى الاهتزازات في نسيج الزمكان الناتجة عن اصطدام كوني واحد، أننا دخلنا عصر مراقبة الكون بكل حواسنا في آنٍ واحدٍ.
- ترجمة: عامر السبيعي.
- تدقيق: رجاء العطاونة.
- تحرير: زيد أبو الرب.