تُعرف الثقوب السوداء بشرهها الآبد، ملتهمة المادة بضراوة لا يستطيع حتى الضوء الهروب منها بمجرد أن يُبتلع. على أي حال، إنّ غير المفهوم هو كيف يتخلص الثقب الأسود من الطاقة المحتجزة ضمن دورانه نافثاً البلازما (نفثات البلازما ) ذات السرعة القريبة من الضوء إلى الفضاء وجوانبه المتعاكسة في أحد أقوى الاستعراضات في الكون ، إذ يمكن لهذه النفثات أن تمتد بعيدًا لملايين السنين الضوئية، وهذا ما تحاول عمليات المحاكاة تصويره !

لقد جمعت عمليات المحاكاة الجديدة التي يقودها باحثون يعملون في مختبر لورانس بيركلي الوطني التابع لوزارة الطاقة “بيركلي لاب” (Lawrence Berkeley National Laboratory (Berkeley Lab)) وجامعة كاليفورنيا في بيركلي (UC Berkeley) نظريات عمرها عقود من الزمن لتوفير استبصار جديد حول آليات الدفع في نفثات البلازما التي تسمح لها بسرقة الطاقة من حقول الجاذبية القوية الخاصة بالثقوب السوداء، ودفعها بعيدًا عن ثغورها. يمكن أن تقدم عمليات المحاكاة مقارنة مفيدة للمشاهدات عالية الدقة من تلسكوب (إيفينت هورايزن – Event Horizon Telescope) عن طريق مصفوفة مُصممة لتوفير أولى الصور المباشرة للمناطق التي تتشكل فيها نفثات البلازما .

الثقب الأسود

الثقب الأسود

سيمكن التلسكوب إجراء مشاهدات جديدة للثقب الأسود في مركز مجرتنا درب التبانة، وكذلك مشاهدات مفصلة للثقوب السوداء الفائقة الأُخرى. قال (كايل بارفري – Kyle Parfrey)، الذي قاد عمليات المحاكاة عندما كان منتسبًا لزمالة أينشتاين ما بعد الدكتوراه (Einstein Postdoctoral Fellow) مع قسم العلوم النووية في مختبر بيركلي: «كيف يمكن أن تُستخرج الطاقة من دوران الثقب الأسود لصنع نفثات البلازما ؟ لقد كان هذا سؤالًا لفترة طويلة». بارفري الآن أحد كبار الباحثين في مركز غودارد للطيران الفضائي (Goddard Space Flight Center) التابع لوكالة ناسا في (ماريلاند – Maryland)، وهو كاتب رئيسي لدراسة نُشرت في 23 كانون الثاني لدورية (فيزيكال ريفيو ليترز – Physical Review Letters) شرحت بالتفصيل بحث المحاكاة.

توحد عمليات المحاكاة -في سابقة لا نظير لها- نظرية تشرح الكيفية التي تحرف بها التيارات الكهربائية حول الثقب الأسود حقولًا مغناطيسية لتشكيل نفثات البلازما ، مع نظرية مستقلة تشرح كيفية عبور الجسيمات نقطة اللاعودة في الثقب الأسود -أفق الحدث- يمكن لتلك الجسيمات أن تبدو لمراقب بعيد أنها تحمل طاقة سلبية وتخفض طاقة الدوران الكلية للثقب الأسود. يشبه الأمر تناول وجبة خفيفة تجعلك تفقد السعرات الحرارية بدلًا من اكتسابها، في الواقع، نتيجة لالتهامه هذه الجسيمات ذات «الطاقة السلبية» يفقد الثقب الأسود كتلة. تواجه عمليات المحاكاة الحاسوبية صعوبة في نمذجة كل الفيزياء المعقدة والمتعلقة بإطلاق نفثات البلازما، والتي يجب أن تكون مسؤولة عن خلق أزواج من الإلكترونات (electrons) والبوزيترونات (positrons)، وآلية تسريع الجسيمات، وانبعاث الضوء في النفثات.

ساهم مختبر بيركلي بشكل واسع في عمليات محاكاة البلازما على مدى تاريخه الطويل، البلازما خليط شبه غازي من الجسيمات المشحونة، وهي حالة المادة الأكثر شيوعًا في الكون. قال بارفري إنه أدرك أن عمليات المحاكاة الأكثر تعقيدًا لوصف أفضل للنفثات ستتطلب مزيجًا من الخبرات في مجالي فيزياء البلازما، ونظرية النسبية العامة. وقال: «اعتقدت أنّه سيكون الوقت المناسب لمحاولة الجمع بين هذين الأمرين». أُجريت عمليات محاكاة نفاثات البلازما في مركز للحوسبة الفائقة وهو مركز أبحاث أيمس التابع لوكالة ناسا (NASA Ames Research Center) في ماونتن فيو بولاية كاليفورنيا (Mountain View, California)، تتضمن العمليات تقنيات رقمية جديدة تقدم النموذج الأول لبلازما غير متصادمة -لا تلعب التصادمات بين الجسيمات المشحونة فيها دورًا رئيسيًا- بوجود حقل جاذبي قوي متعلق بثقب أسود.

تنتج عمليات المحاكاة بشكل طبيعي تأثيرات تُعرف باسم آلية بلاندفورد- زناجيك (Blandford-Znajek) تصف الحقول المغناطيسية الملتوية التي تشكل النفثات، وعملية (بينروز – Penrose) المستقلة التي تصف ما يحدث عندما تُبتلع جسيمات الطاقة السالبة بواسطة ثقب أسود. قال بارفري: «على الرغم من أن عملية بينروز لا تساهم بالضرورة باستخراج طاقة الدوران للثقب الأسود، لكنها ربما ترتبط بشكل مباشر بالتيارات الكهربائية التي تحرف المجالات المغناطيسية الخاصة بالنفثات».

وفي حين أنها أكثر تفصيلًا من بعض النماذج السابقة، فقد أشار بارفري إلى أن عمليات المحاكاة التي أجراها فريقه ما تزال تحاول مواكبة المشاهدات، وتصبح مثالية في بعض النواحي لتبسيط الحسابات اللازمة لإجراء عمليات المحاكاة. يعتزم الفريق أن يقدم نمذجة أفضل للعملية التي تُنشأ بواسطتها أزواج (إلكترون- بوزيترون) في نفاثات البلازما من أجل دراسة توزع البلازما، وابتعاثها للإشعاع بشكل أكثر واقعية للمقارنة بالمشاهدات، وإنه يخطط أيضًا لتوسيع نطاق عمليات المحاكاة لتشمل تدفق المادة التي تسقط حول أفق الحدث للثقب الأسود، والمعروف باسم تدفق التراكم (accretion flow). وقال: «نأمل أن نوفر صورة أكثر ملائمة للمشكلة برمّتها».

ترجمة: رولان جعفر    تدقيق: محمد قباني

المصدر

اقرأ أيضًا:

قياس سرعة دوران الثقب الأسود

قياس سرعة دوران الثقب الأسود

نجم يمر بالقرب من الثقب الأسود في مركز مجرتنا على وشك أن يختبر نظرية أينشتاين

نجم يمر بالقرب من الثقب الأسود في مركز مجرتنا على وشك أن يختبر نظرية أينشتاين

يعلن علماء الفلك عن اكتشاف أفضل إثبات لوجود الثقب الأسود النادر المعروف بـ «الرابط المفقود»

يعلن علماء الفلك عن اكتشاف أفضل إثبات لوجود الثقب الأسود النادر المعروف بـ «الرابط المفقود»