قد يتمنى شخص ما أن ينسى الشجار الذي خاضه مع أحد أفراد عائلته، أو ألا يتذكر فيلم الرعب الذي شاهده مؤخرًا لوحده، أو حتى أن ينسى مصدر الرائحة الكريهة في محطة القطار التي كان يعاني منها في طريقه إلى العمل. يحتاج المرء في هذه الحالات إلى حمض غاما أمينوبوتيريك، وذلك ليساعده في التحكم بتلك الذكريات والأفكار المزعجة.

تشير دراسة صغيرة أجريت في الآونة الأخيرة، إلى دور حمض غاما أمينوبوتيريك في تثبيط الأفكار والذكريات المزعجة وإسكاتها، وذلك ضمن منطقة في الدماغ تسمى بالحصين. يعد حمض غاما أمينوبوتيريك ناقلًا عصبيًا كيميائيًا، ويوجد في الجهاز العصبي المركزي لدى الثدييات.

تقدم نتائج الدراسة هذه، والتي نشرت في الثالث من نوفمبر في صحيفة Nature Communications، معلومات أكثر حول الآليات التي يقوم بها البشر للتحكم بالذكريات والأفكار السيئة، التي لا يريدونها أن تجول في عقولهم.

وضح الباحثون أيضًا أن البحث السابق قدم بعض الأدلة عن التغيرات التي تحدث في أدمغة الناس المصابين ببعض الاضطرابات مثل الفصام أو الشيزوفرينيا، التي يعاني مرضاها من صعوبات في التحكم بأفكارهم الاقتحامية وإبقائها تحت السيطرة.

درس الفريق في البحث السابق أدمغة 24 مشاركًا شابًا يتمتع جميعهم بصحة جيدة، وذلك في أثناء استرجاعهم لذكريات ما أو تثبيطها وإسكاتها. وجد الفريق حينها أن المشاركين في الدراسة، ممن كانت أدمغتهم تحوي نسبةً أكبر من حمض غاما أمينوبوتيريك في الحُصين، استطاعوا التحكم بالأفكار والذكريات التي استدعوها أكثر، وذلك مقارنة بغيرهم ممن يملكون نسب أقل من حمض غاما أمينوبوتيريك.

كلما انخفضت مستويات حمض غاما أمينوبوتيريك في الجهاز العصبي المركزي، تقل سيطرة الشخص على عمل دماغه دون توقف، واستراجعه للذكريات المزعجة.

إن عملية حساب كمية حمض غاما أمينوبوتيريك الموجودة في منطقة حصان البحر من الدماغ لا تعد أمرًا سهلًا.

استعان فريق البحث في سبيل ذلك بتقنية باهظة الثمن تسمى: مطيافية الرنين المغناطيسي. تتميز مطيافية الرنين المغناطيسي عن باقي فحوصات الدماغ الاعتيادية رغم ثمنها الباهظ وصعوبة استخدامها، إذ يمكّن هذا الاختبار الباحثين من معرفة محتوى دماغ المشاركين من النواقل الكيميائية وكميتها، وليس فقط من الكشف عن شكل الدماغ العام وكثافته.

مع ذلك، استطاع فريق البحث عبر الاستعانة بمطيافية الرنين المغناطيسي، تصنيف المشاركين في الدراسة إلى مجموعة تملك مستويات عالية من حمض غاما أمينوبوتيريك، ومجموعة أخرى تملك مستويات منخفضة منه.

ركز الباحثون، وذلك بعد تمكنهم من قياس كميات حمض غاما أمينوبوتيريك في الدماغ، على دراسة قدرة المشاركين على تثبيط ذكرياتهم وأفكارهم المزعجة وإبقائها تحت السيطرة.

اتبع الفريق في هذه المرحلة لعبة بسيطة، إذ أعطوا المشاركين جهاز تحكم يحوي زرين. طلب الباحثون من المشاركين الضغط على الزر الأيسر إذا ظهرت ألوان محددة على الشاشة، والضغط على الزر الأيمن إذا ظهرت ألوان أخرى عليها. أعاد المشاركون اللعب مرارًا وتكرارًا حتى وصلوا إلى المرحلة التي أصبحوا فيها يضغطون على الأزرار الصحيحة دون حاجة للتفكير حتى.

أضاف الباحثون بعد ذلك قاعدة جديدة، والتي تنص على ألا يضغط المشاركون على الأزرار إذا سمعوا صوت نغمة. زاد ذلك من صعوبة اللعبة بكثير، إذ كان على المشاركين حينها التحكم بالحركة اللا إرادية السريعة لأصابعهم، ومنه الضغط على الزر بعد ظهور اللون مباشرةً وعدم الانتظار لسماع صوت النغمة.

يستعين علماء الأعصاب بهذا النوع من الاختبارات لقياس قدرة المرء على التحكم بذكرياته وأفكاره وإبقائها تحت السيطرة. لاحظ الفريق أن أولئك الذين تمكنوا من التحكم بحركة أصابعهم وتفادي ضغط الأزرار الخاطئة، يملكون القدرة على إبقاء ذكرياتهم وأفكارهم غير المرغوبة تحت السيطرة على نحو أفضل من غيرهم.

بينت الدراسة أن مجموعة المشاركين الذين يملكون مستويات أعلى من حمض غاما أمينوبوتيريك كانوا أفضل بكثير في لعبة الأزرار، وذلك مقارنة بالمجموعة الأخرى التي تملك مستويات أقل منه.

يعني ذلك أن نتائج الدراسة تربط كمية حمض غاما أمينوبوتيريك في الحصين مباشرةً بقدرة المرء على التحكم بالذكريات، ما وسع من فهم علماء الأعصاب لكيفية حدوث عملية استرجاع الذكريات في الدماغ.

وضح الباحثون في بيان لهم، أن بعض الاضطرابات العقلية مثل الفصام، وترتبط عادة بانخفاض مستويات حمض غاما أمينوبوتيريك في الدماغ، قد تترافق أيضًا بنقص الأدوات الكيميائية الأساسية لتثبيط استرداد الذكريات.

أنهى فريق البحث كلامه موضحًا أن المستويات المنخفضة لحمض غاما أمينوبوتيريك لدى مرضى هذه الاضطرابات، قد تترافق مع زيادة الذكريات والأفكار المزعجة، وإرباكها للعقل والتفكير أكثر.

تضمنت الدراسة السابقة عددًا من المشاركين الشباب الأصحاء، مع ذلك، يجب إجراء مزيد من الأبحاث لمعرفة ما إذا كانت النتائج صحيحة ومنطبقة على مجموعات أخرى من الناس، إضافةً إلى معرفة معلومات أكثر حول دور حمض غاما أمينوبوتيريك في الذاكرة.

اقرأ أيضًا:

تخزين الذكريات الجديدة يسبب ضررًا لخلايا الدماغ

اكتشاف نوع جديد من الخلايا العصبية يلقي الضوء على تشكل الذكريات

ترجمة: رهف وقّاف

تدقيق: نور حمود

مراجعة: باسل حميدي

المصدر