مركز مجرتنا قد يكون واحدًا من أكثر الأماكن غموضًا في الكون، بل ربما كان أكثر غموضًا من بعض مراكز المجرات الأخرى التي نعرف عنها أكثر مما نعرفه عن مركز مجرتنا، إذ يحجبه غبارٌ كثيفٌ يُصعّب من مهمة استكشافه على الفلكيين الذين ما انفكوا يحاولون سبر أغواره وفهم الإشعاعات الكبيرة المتولدة فيه وتحديد مصدرها.
ساعدت دراسة جديدة مستندة على بيانات مجمعة على مدار 20 سنة -وكذلك على فقاعة من الهيدروجين لا يفترض بها التواجد في تلك البقعة- على فهم تلك الطاقة الهائلة، إذ اختبر فريق من الباحثين بقيادة دانيش كريشنارو من جامعة ويسكونسن عقودًا من البيانات المجمعة من تلسكوب ويسكونسن إتش ألفا مابر WHAM لمحاولة فهم تلك الطاقة، ونُشرت تلك النتائج في مجلة ساينس أدفانسيس في ورقة بعنوان «اكتشاف خطوط الانبعاثات الضوئية المشتتة من قلب المجرة: دليل على غاز شبه خطي».
صُمم تلسكوب وام بطريقة تمكنه من التقاط الهيدروجين المتأين المتواجد بكثرة قرب مركز مجرة درب التبانة ودراسته، ويعزى السبب في تأين الهيدروجين إلى الطاقة الكبيرة من مركز المجرة التي يرجح العلماء أن مصدرها تشكل النجوم، وتؤين تلك الطاقة الهيدروجين وتنزع عن ذراته إلكتروناتها، ليس هذا فحسب، فبعد تأين الغاز تتراكب الأيونات من جديد لتصبح متعادلة في زمن قصير، ويعد التأين المستمر للهيدروجين بواسطة مصدر الطاقة في قلب المجرة الرابط بين بيانات تلسكوب وام والطاقة في مركز المجرة.
تحوي مجرة درب التبانة طبقة كثيفة من الغاز المتأين يسمى «الوسط المتأين الساخن» الذي يعد مكونًا مميزًا ورئيسيًا للوسط بين المجري، ويستهدف تلسكوب وام ذلك الغاز تحديدًا.
يقول إل ماثيو هافنر، المؤلف المشارك من جامعة إمبري ريدل لعلوم الطيران في مؤتمر صحفي: «دون مصدر مستمر للطاقة، تعيد الإلكترونات التجمع لتعود إلى حالة متعادلة في زمن قصير نسبيًا، وتساعدنا رؤية الغاز المتأين بطرق جديدة على اكتشاف المصادر المحتملة التي ربما تكون مسؤولة عن نشاط ذلك الغاز».
بدأ الأمر بملاحظة من المؤلف المشارك، أستاذ علم الفلك بوب بينجامين أثناء مراجعته لبيانات تلسكوب وام منذ بضع سنوات تتعلق بالهيدروجين المتأين عبر مجرة درب التبانة، إذ لاحظ بنجامين ما أسماه «العلامة الحمراء» وهي فقاعة غريبة الشكل من الهيدروجين المتأين منبثقة من المركز الغازي لمجرة درب التبانة يسميها الفلكيون «القرص المائل» ولا يمكن تفسير شكلها الغريب بأسباب فيزيائية مثل دوران المجرة، ولكن من المحتم وجود تفسير آخر.
حاول الباحثون استغلال تلك الفرصة -التي قلما تتكرر- ببروز ذلك القرص من مخبئه المعتاد خلف الغبار الكثيف الذي عادة ما يحجب القرص المائل، ويجعل رؤيته ممكنة فقط بالأشعة الراديوية أو تحت الحمراء؛ ما يمكن الباحثين من دراسته ومقارنته بباقي مراكز المجرات الحلزونية الأخرى في نطاق الضوء المرئي بفضل تلسكوب وام.
يقول هافنر: «تمكننا بعد إجراء تلك القياسات في الضوء المرئي من مقارنة مركز مجرة درب التبانة مع مراكز المجرات الأخرى بسهولة أكبر، إذ قاست العديد من الدراسات السابقة كمية ونوعية الغاز المتأين من مراكز آلاف المجرات الحلزونية في الكون، وللمرة الأولى نقارن القياسات من مجرتنا مع باقي القياسات».
استعمل قائد فريق البحث دانيش كريشنارو واحدًا من النماذج العلمية العديدة للغاز المتأين المكون للوسط المتأين الساخن للتنبؤ بكمية الغاز المتأين الذي ينبغي تواجده في منطقة العلامة الحمراء التي اكتشفها بنجامين، وأدخل تحسينات على تلك التنبؤات باستعمال بيانات تلسكوب وام ومن ثم رسم صورة دقيقة ثلاثية الأبعاد لشكل الفقاعة، وباستعمال التحليل الطيفي تعرف الباحثون على كمية النيتروجين والأكسجين في تلك الفقاعة، ما مكنهم من معرفة المزيد عن تركيب الفقاعة والعناصر التي تشكلها، إذ تبين النتائج تأين حوالي 48 بالمئة من الغاز في القرص المائل بواسطة مصدر غير معروف.
يقول كريشنارو: «يمكن استعمال مجرة درب التبانة الآن كي نفهم نفس المجرة بصورة أفضل».
قبل هذه الدراسة، كان العلماء يعرفون فقط بشأن الغاز المتعادل أو غير المتأين في مركز المجرة، لكنهم باتوا يفهمون الآن الغاز المتأين بصورة أفضل ويعرفون بشأن تغيره مع تحركه بعيدًا عن مركز المجرة، الأمر الذي يُعد فارقًا كونه يسلط الضوء على التشابه بين مجرة درب التبانة والمجرات الحلزونية الأخرى المسماة بالخطية.
يقول كريشنارو: «بالقرب من مركز مجرة درب التبانة، يتأين الغاز بواسطة النجوم المتشكلة حديثًا، لكن كلما ابتعدت عن المركز تصبح الأمور أشد عنفًا، ويتخذ الغاز شكلًا مشابهًا لذلك الموجود في المجرات الخطية أو مناطق انبعاثات التأين المنخفض».
يمكن التعرف على المجرات الخطية عن طريق انبعاثات الخطوط الطيفية التي تُظهر وجود ذرات متعادلة أو ضعيفة التأين مثل O و O+ و N+ و S+، وتشكل المجرات الخطية قرابة ثلث عدد المجرات القريبة، وتتميز بأنها أكثر إشعاعًا من المجرات ذات مصدر الطاقة الواحد المتمثل في تشكل النجوم، ولكنها أقل إشعاعًا من تلك المجرات ذات الثقوب السوداء فائقة الكتلة. باتت لدينا اليوم معرفة بأن مجرتنا من النوع الخطي، ما يُمكن الفلكيين من دراستها عن كثب.
يقول هافنر «قبل هذا الاكتشاف الأخير، كانت مجرة أندروميدا هي أقرب المجرات الخطية إلينا، ولكنها ما تزال بعيدة عنا بملايين السنين الضوئية، وبوجود مركز درب التبانة على مقربة نسبيًا -عشرات الآلاف من السنوات الضوئية- يمكننا دراسة المناطق الخطية عن كثب، ما يساعدنا على معرفة البيئة الحالية والماضية في قلب مجرتنا».
بالرغم من معرفتنا بشكل المجرة حاليًا وكونه خطيًا، وما يَظْهر أن الفقاعة التي اكتشفها بنجامين تتحرك نحونا بسبب مدارها الإهليجي فإن السؤال الجوهري ما يزال مطروحًا: ما مصدر الطاقة التي تسبب عملية التأين؟
ربما علينا الانتظار حتى وصول التليسكوب الجديد -لم يُسم حتى الآن- الذي سيخلف تليسكوب وام. إذ صرح هافنر: «نأمل استبدال تلسكوب وام في السنوات المقبلة بواحد آخر ذي قدرات أعلى تمكننا من رؤية الغاز بوضوح، وفي اللحظة الراهنة، يبلغ حجم البكسلات في خريطتنا ضعف حجم القمر المكتمل. كان وام ذا عون كبير لنا في إجراء أول مسح شامل للسماء لاكتشاف هذا الغاز، ولكن شهيتنا مفتوحة للمزيد من التفاصيل».
اقرأ أيضًا:
مجرة درب التبانة: معلومات عن المجرة التي تحتوي نظامنا الشمسي
اكتشاف أجسام غريبة في مركز المجرة لا مثيل لها في درب التبانة
ترجمة: أحمد جمال
تدقيق: سميّة بن لكحل