ألقت جائحة كوفيد-19 ظلالها على العالم، ومن تداعياتها الكبيرة حظر السفر -الذي يُعد هوايةً للكثير من الأشخاص- بين الدول أو تقييده كثيرًا. تخيل أنك وصلت أخيرًا إلى مدينة البندقية في إيطاليا، وفجأة، وجدت المدينة العائمة قد غرقت بالماء! هل ستبقى في المدينة تتسكع في ميدان سان ماركو عبر ممرات مؤقتة مرتفعة دون أن تتمكن من الدخول إلى كنيسة سان ماركو الشهيرة أو قصر دوجي؟ أم أنك ستغادر المدينة، آملًا أن تعود مرة أخرى في المستقبل في ظروف أفضل؟
أشارت اللجنة الدولية للتغيرات المناخية (IPCC) إلى أن مدينة البندقية ستعاني زيادة منسوب المياه خلال ثلاثين عامًا القادمة، إذ يرتفع مستوى المياه في البحر الأدرياتيكي عدة مليميترات كل سنة، ما يجعل الفيضانات التي كانت تحدث كل 100 عام تحدث كل ست سنوات بحلول عام 2050، ومن المؤسف أنها ستتكرر كل خمسة أشهر بحلول عام 2100.
لا يُهدد الخطر مدينة البندقية وحدها، فهي مثال بسيط عن حجم التحديات التي يواجهها العالم للحفاظ على المعالم التراثية من آثار تغير المناخ ، الذي يُهدد برفع مستوى الماء في البحار في بعض الأماكن، والتسبب بحالات جفاف شديدة في أماكن أخرى، إضافةً إلى حرائق الغابات والأعاصير وغيرها.
تقول الباحثة إيرين سيكامب من جامعة ولاية كارولاينا الشمالية: «خلال دراستي باحثةً اجتماعية، ساعدت المسؤولين عن الأماكن التراثية على اتخاذ القرارات المناسبة فيما يتعلق بإعطاء الأولوية لأماكن دون غيرها حال توفر الأموال، ويشمل ذلك وضع الخطط اللازمة لحماية الآثار المُصنفة من قبل الأمم المتحدة كنوزًا طبيعية أو ثقافية».
وسائل التأقلم
تواجه العديد من الأماكن التراثية حول العالم فيضانات، وذلك بسبب ارتفاع مستوى المياه في البحار، والأعاصير، وحالات انجراف التربة وغيرها. ومن هذه الأماكن جزيرة جيمستاون في فيرجينيا، وتمثال الحرية في نيويورك، ومدينة تشارلستون في جنوب كارولينا.
يؤكد جميع خبراء حماية الآثار حول العالم استحالة حماية جميع الأماكن التراثية العالمية للأبد، إذ يحتاج العديد منها إلى ترميم ورعاية مستمرة، في حين يحتاج بعضها الآخر إلى جدران للحماية من الفيضانات، التي قد لا تكون فعالة على المدى البعيد. وتتنوع طرق التعامل مع الأبنية أيضًا، فأحيانًا يُفضل نقلها الى مكان آخر، أو السماح للمياه بجرفها، ما يتعارض مع سياسة بعض المناطق.
حماية الأبنية التاريخية في كارولينا الشمالية
اختُبرت آلية نقل الأبنية التاريخية سنة 1999، عندما اضطر المسؤولون إلى نقل منارة كيب هاتيراس نحو نصف ميل إلى الداخل، إثر التعرية البحرية التي لحقت بالساحل في تلك المنطقة، وبلغت كلفة النقل نحو 11.8 مليون دولار، ما طرح تساؤلات حول كيفية التعامل مع الأبنية الأخرى.
لاحظ المسؤولون سنة 2015 خطر الفيضانات والعواصف المُحدق بمدينتي بورتسموث وكيب لوكاوت في كارولينا الشمالية، إذ كانت بورتسموث ميناءً مزدهرًا لصيد الأسماك والشحن يقع في قرية في جزيرة بورتسموث على الضفاف الخارجية لسواحل كارولينا الشمالية، يرجع تاريخها لعام 1753، في حين قدمت قرية كيب لوكاوت الدعم الملاحي للسفن عبر بناء منارة سنة 1812 التي استُبدلت سنة 1859.
صُنفت الأبنية في تلك المناطق أبنيةً تاريخية، ما ألزم المسؤولين والسلطات المختصة رعايتها وحمايتها دائمًا، لكن دائمًا ما يقعوا في حيرة وتساؤل عن الأماكن التي يجب حفظها أولًا، لذالك وجب عليهم اختيار استراتيجية واضحة لنقل تلك الأبنية أو إزالتها.
طوَّرت إيرين بمساعدة فريق من المتخصصين نهجًا جديدًا لتحديد الأولويات وفرز الأبنية التاريخية حسب الأهمية، وأنشؤوا نموذجًا لمساعدة المسؤولين على حساب التكلفة، واتخاذ قرارات أكثر فعالية، إذ توفر معلومات حول أهمية كل بناء، ومدى تعرضه للضرر، وتقدر كلفة إعادة ترميمه أو نقله، وترسم خطط الحفاظ على البناء مدة 30 عامًا.
جربت إيرين وفريقها النموذج الجديد على 17 بناءً من قرية كيب لوكاوت المعرضة لخطر الفيضانات، ووجدوا أن أفضل طريقة لحماية تلك الأبنية، هي نقلها إلى أرض مرتفعة، لكن الحل لم يعجب سكان المنطقة، لأن الأبنية تمثَّل لبعضهم ارتباطًا عائليًا واجتماعيًا، حتى إنهم فضلوا خسارة الأبنية على نقلها أو تغييرها. أما أصحاب المصالح السياحية فتباينت آراؤهم حول ذلك. اتخذت السلطات في بورتسموث سنة 2019 قرارًا بإزالة بعض الأبنية وترميم بعضها الآخر، وذلك إثر إعصار ضرب البلدة.
الأماكن التراثية العالمية التي تواجه أخطارًا مناخية
كما ذكرنا سابقًا، يهدد تغير المناخ العديد من الأماكن الأثرية حول العالم، بعضها موغلٌ في القِدم كمدينة تشان تشان في بيرو، وهي أكبر مدينة في عصر ما قبل الكولومبية بُنيت من الطين، وكهوف شعوب بويلو الأصلية في حديقة ميسا فيردي الوطنية في كولورادو.
مدن كاملة أيضًا معرضة للخطر مثل البندقية، وأبنيه تاريخية مثل دار أوبرا سيدني في أستراليا. تعتمد السياسة الحالية لحماية تلك المدن على تطوير الدفاعات من حولها وترميمها، حتى تتمكن من مقاومة العوامل الخارجية، لكن من الضروري إضافة الأماكن الأثرية المعرضة لخطر التأثر بتغير المناخ والعوامل الخارجية إلى قائمة «الأماكن التاريخية المعرضة للخطر»، وهو أمرٌ غير مرغوب فيه من السلطات والمستثمرين، إذ سيواجه انتقادات لاذعة، وسينتج عنه إبعاد السياح.
الحاجة إلى التغيير
يدعو البحث إلى إنشاء قائمة جديدة تحت اسم «مواقع التراث العالمي في ظل التغير المناخي»، بهدف ردع الخطر قبل وقوعه واتخاذ الاجراءات اللازمة لوقاية تلك الأماكن. تشير الباحثة إلى أن هذا الأسلوب يعتمد المرونة والتأقلم بمفهومه البيئي، إذ يتيح للمسؤولين ترميم الأماكن التراثية، وتجهيزها لمواجهة الأخطار المحتملة.
يوفر التصنيف الجديد قاعدة بيانات تساعد على فهم تغيرات المناخ وآثارها والتخطيط لمواجهتها، وقد يكون نقل الأماكن التراثية موضع جدل حاليًا، لكن الوقت يمضي سريعًا، وسيستغرق التخطيط لبناء دفاعات قوية وتصميمها وبناؤها زمنًا طويلا، فمثلًا، اختُبرت البوابات الموجودة لحماية مدينة البندقية بعد عشر سنوات من التخطيط لتنفيذها.
تعتقد الباحثة أن إنقاذ الأماكن التراثية العالمية يتطلب نهجًا جديدًا، يجب أن يتضمن عملية نقل الأماكن التاريخية أو ترميمها، وأن الوقت قد حان للتفكير خارج الصندوق.
اقرأ أيضًا:
الزهور في جميع أنحاء العالم تغير لونها بسبب تغير المناخ!
تأثير تغير المناخ في المحاصيل الزراعية
خريطة توضح المناطق المعرضة لخطر الملاريا بسبب الاحترار العالمي
ترجمة: بيان علي عيزوقي
تدقيق: حنين سلَّام
مراجعة: أكرم محيي الدين