من بين جميع أنواع الرئيسيات التي عاشت، لم نعثر إلا على مستحاثات جزء صغير منها.
بعد موتها، تتعرض عادة الجثة إما للنهش و الإستهلاك من طرف الحيوانات المفترسة و الميكروبات، أو للتحلل الكيميائي ليعاد رسكلة الهباءات و تدخل بدورة جديدة بالنظام البيئي.
و بذلك سيكون السجل الأحفوري منقوصا بالضرورة.
لن نبالغ إذا قلنا أن التنقيب عن الأحافير أصعب من البحث عن الإبرة في كومة القش، يتطلب لا الكثير من المثابرة و الحظ فقط، و إنما شروطا معينة حددها علم الـ Taphonomy أي “قوانين الدفن”.
تسلسل الشروط الآتية سيعزز حظوظك في أن تصبح أحفورة يدرسها العلماء أو يندهش فيها رواد المتاحف يوما.
1 – موت الحيوان الرئيسي، طبعا، سواء بمسكنه أو عرين مفترسه.
2 – الإهمال، لحظوظ أكثر للتحفر.
أي أن لا تنهش الجثة من طرف الحيوانات المفترسة، لا تداس أو تجرف بالمياه، لا ترسكل كليا بالوسط البيئي حتى تحفظ العضام و الأسنان سليمة.
الخضوع لمثل هذه الأحداث أمر اعتيادي، و لا يعني أن التحجر بات مستحيلا، لكن سينقص كثيرا من احتمال اكتشاف الأحفورة و تحليلها.
3 – دفن جثة الحيوان الرئيسي عبر مراحل جيولوجية.
لا يمكن للوسط أن يكون حامضا جدا.
قعر بحيرة مالحة قد يكون مكانا جيدا، أو ربما بعض المستنقعات أو الأوحال التي تفتقر للأكسيجين و الميكروبات المفككة للبقايا.
يحدث الترسب في أماكن يتحرك فيها الماء و الهواء كثيرا، أو قرب ظواهر (كانفجار بركاني) تغطي السطح بطبقة جديدة.
إذا صدف و مات الحيوان الرئيسي بالقرب و أثناء عملية ترسب فإن حظوظه في التحجر ستزداد.
رماد البراكين بصفة خاصة تساعد جدا، لا لأنها تمثل حاضنة للبقايا فقط و إنما تسهل عملية التأريخ للباحث.
4 – التحجر.
بعد أن تحفظ في القالب Matrix، تبدأ المواد العضوية بالتحلل.
مع الوقت، و في ظروف المناسبة(حرارة، ضغط، تركيبة الوسط…) تتكون صخور صلبة من البقايا البيولوجية و الترسبات و تسمى العملية بالتصلد Diagenesis .
يتحول على إثرها الكائن الحي إلى هيكل متحجر أو بصمة منحوتة على الصخر، وفق طريقتين أساسيتين.
فإما أن تتحلل البقايا تماما لترك فراغ يعبأ فيما بعد برواسب.
بهذه الطريقة تتحجر الأدمغة أو حتى أجسام اللافقاريات بالكامل (أنظر الوثيقة 3 بالمصدر)، أو في أغلب الأحيان تحفظ أعضاء كالعضام و الأسنان بصورة تامة، أو على الأقل.
فالعضام كالخشب تحوي مسام و قنوات التي يملؤها لاحقا الكالسيت و السيليكا و مكونات معدنية أخرى.
يمكن لها أن تغير لون العضام لكنها تحتفظ بصفة هامة على بنيتها الداخلية.
الأسنان باستطاعتها مقاومة التفكك الكيميائي و الفيزيائي أكثر بفضل كثافة تركيبتها و احتوائها على معدن معمر، الهيدروكسياباتيت Hydroxyapatite.
لذلك فالأسنان هي أكثر الأعضاء المكونة للسجل الأحفوري للرئيسيات و باستطاعة علماء الأحافير من حسن الحظ، التعرف على الأنواع من خلالها مع نسبة خطأ ضئيلة.
سرعة التحجر تتغير مع الضروف، و العينات المتحجرة جزئيا يطلق عليها مصطلح Subfossils.
منها بقايا الهياكل العضمية للحيوانات المنقرضة حديثا، كأنواع ضخمة من ليمور Lemur مدغشقر التي اختفت منذ 2000 سنة.
استطاعت مستحاثاتها الاحتفاظ بالحمض النووي DNA فاستخرج بنجاح.
5 – الإكتشاف.
قبل الشروع في مغامرة بحثا عن ضالته، يعاين عالم الأحافير خرائط جيولوجية ليتأكد ما إن كانت الصخور المعروضة تمثل التاريخ المناسب.
إذا كان مهتما مثلا بالبحث عن أكثر القردة قدما كالـ Proconsul، فعليه تتبع صخور العصر الميوسيني.
و إذا استحال تأريخ الصخور طبقيا، فإن وجود أنواع أخرى منتمية لنفس الحقبة بالمنطقة قدد يوجهه.
ما إن يتم تحديد المنطقة، يستعين الباحث بـ Google earth أو صور جوية أو يقوم بزيارتها، ليرى ما إن كانت مكشوفة أو مغطاة بنباتات، او زراعات أو مياه بحيرة… لكن كونها “أحافيرا” لا يعني أنها تستوجب عناء الحفر لإيجادها.
تم العثور على العديد من أحافير الرئيسيات في شمال و غرب كينيا مبعثرة على سطح الأرض.
يجب الإشارة إلى أن العديد من الوكالات الحكومية تشترط الحصول على موافقتها قبل البحث في نطاقها، حماية للسياق الذي وجدت به الأحافير و هو أمر في غاية الأهمية (مكان استخراجها، قالبها الصخري، طريقة تحجرها، عمرها…).
فإذا ما عثر أحدهم على أحفورة و ذهب بها إلى أقرب مدينة لبيعها كتحفة، تفقد مكانتها العلمية و لا تعد أن تكون صخرة طريفة الشكل.
رغم كل هذا، فإن سجلنا الأحفوري اليوم يحوي فراغات أكثر من احتوائه أحافير.
التاريخ التطوري للأرض به العديد من الكائنات الحية الضاربة في القدم، لدرجة تجعلنا في حاجة إلى أجيال و أجيال من العلماء لملئ الفراغات و إتمام سجل الرئيسيات الذي بدأ منذ 65 مليون سنة، و يتواصل لليوم، نحو زمن مجهول بالمستقبل.