حال شاهدت الحلقة الأولى من المسلسل الجديد على بي بي سي «كوكب أفضل» لديفيد أتينبورو، سترى السلوك المذهل للعصافير مصاصة الدماء. توجد هذه الطيور الصغيرة فقط في جزيرتين نائيتين من جزر غالاباغوس، وتطورت لتشرب دماء الطيور البحرية الأكبر.
سترى أيضًا السلوك العجيب لطائر الأخبل، الذي لا يشكو امتصاص دمه من العصافير مصاصة الدماء، ولا يحاول التخلص منها.
إذن كيف تطورت هذه الطيور وقريباتها مفتقرةً إلى المقاومة؟ يبدو أنها بدأت علاقةً «تبادلية» مربحة لكلا الطرفين.
مثلًا، تُنشِئ الأسماك الشفاهية مثل السمك المنظف محطات تنظيف في الشعاب المرجانية. تزور الأسماك الكبيرة والأخطبوط والسلاحف محطات التنظيف هذه، فتخلصها الأسماك الصغيرة من الجلد الميت والأنسجة الملوثة أو الطفيليات الخارجية.
تُعد العلاقة بين هذه الأسماك الشفاهية ومضيفها علاقةً مفيدةً للمضيف، إذ تنظفه، ما يبقيه بكامل صحته. وتستفيد الأسماك المنظفة من تناولها للطفيليات، التي لن يتناولها المضيف، من ثم يتشارك الجميع الربح.
مع هذا قد يتسلل الضرر إلى العلاقة التطورية. ماذا لو لم تكن الأسماك المنظفة حذرةً، وعضت المضيف عرَضًا؟
فجأةً، يستفيد السمك المنظف من وجبة لحم مغذية، إذ يكسب الفرد مغذيات أكثر من المعتاد، ما يمنحه ميزة -وإن كانت محدودة- مقارنةً بالأسماك المنظفة الأخرى.
تسمح لها هذه الفوائد بالبقاء طويلًا بما يكفي للتكاثر ونقل جيناتها إلى الجيل القادم. وإذا كان هذا التنظيف الأخرق قابلًا للتوريث، ستحوز السلالة أيضًا هذا الجين المسبب لتناول اللحم، بدلًا من التصرفات الأكثر حذرًا.
ستتناول كل أفراد النوع اللحم مع الوقت، إذ إن تناولها أكثر فائدةً من تركها، وهذه عملية تطور عبر الانتقاء الطبيعي.
حدث شيء مماثل مع سمكة فانغبليني الزرقاء المخططة، التي زيفت شكلها لتبدو مثل أسماك الرأس الشفاهية اليافعة الزرقاء المخططة.
توهمت الأسماك المضيفة الأكبر تقديم سمك البليني لخدمة التنظيف، وتقدمت منتظرةً بصبر أن تُنظف، ما سمح لأسماك البليني بتجنب الافتراس، لكن البليني لا تنظف المضيف، بل تعض قضمةً منه.
طوّر البليني سمًا ذا أساس أفيوني مخدر للألم، ما يمنحه الوقت الكافي للهرب.
هذه ليست علاقة تبادل منفعة، إذ يربح البليني بوضوح في محطة التنظيف، بل يحصل على وجبة مغذية، في حين يتأذى المضيف، إضافةً إلى أذى الطفيليات.
توجد العديد من العلاقات الطفيلية في العالم الطبيعي، من الحيوانات مثل الوقواق الذي يحتال على أنواع أخرى لتربية أفراخه، إلى نبتة الأوركيد النحلي التي تحتال على الحشرات لتلقيحها.
ما نشاهده هو نتيجة سباق تطوري مشترك طويل الأمد، إذ تتطور الأنواع استجابةً لأنواع أخرى.
في المثال الرئيسي للمفترسات الأرضية والطرائد، تخيل سيناريو منذ آلاف السنين حين كانت كل الأنواع تجري بنفس السرعة، هذا لن يفيد أيًا من المفترسات أو الطرائد.
لكن إذا طورت الفرائس حوافر بالتدريج، فستولد أقدامها احتكاكًا أقل مع الأرض، ما يمكنها من الركض أسرع من المفترسات.
قد تخسر المفترسات المعركة حتى تطور استجابتها، وربما امتلكت مخالب غير قابلة للطي لزيادة قوة الجر، مثل الفهد، ما يمكنها من أن تتصدر السباق التطوري.
قد تستمر هذه العلاقات التطورية المشتركة، بل قد تغير مجراها، فبدلًا من التطور لتحقيق سرعة أكبر، قد تتطور الفريسة لتقفز -مثل الظبي الأفريقي- لإرباك المفترس بمناورته والتملص منه.
في الحقيقة، تفترض نظرية الملكة الحمراء حاجة الأنواع إلى التطور باستمرار، لا لتربح، بل للبقاء. في كتاب لويس كارول «عبر المرآة»، تشرح الملكة الحمراء لأليس: «يتطلب الأمر بذل كل ما بوسعك للبقاء مكانك، أما إذا أردت الذهاب إلى مكان آخر، فيجب عليك الركض بضعف السرعة على الأقل».
من المثير للاهتمام، أن طائر نقار الثيران «أوكسبيكر» الموجود في السافانا الأفريقية يتغذى بطريقة مشابهة للعصفور مصاص الدماء، إذ يزيل طفيليات الثدييات الكبيرة مثل الزراف ووحيد القرن، لكنه أيضًا يتغذى على شمع آذانها ودمائها، مانعًا شفاء جراحها بسبب نقرها للدملة.
يبدو هذا علاقةً طفيليةً اعتيادية، إذ يستفيد منها الطائر، لكن كالعصافير مصاصة الدماء، لا تتخلص الثدييات من الطائر ببساطة.
في الحقيقة، يقدم هذا الطائر فوائد إضافيةً بوصفه مراقب للثدييات، فإذا رأى الطائر مفترسًا يقترب، فإنه يحذر المضيف ما يمكنه من الاستجابة.
قد تكون العلاقة بين العصفور مصاص الدماء والأخبل علاقة تبادل منفعة، تطورت إلى علاقة طفيلية. فهل هذه بداية معركة تطورية بين النوعين؟ أو ربما، مثل حالة نقار الثيران، تتضمن العلاقة سرًا لم نكتشفه بعد.
اقرأ أيضًا:
جزر غالاباغوس: مختبر التطور الطبيعي
انقرض هذا الطير فأعاده التطور للحياة بعد أكثر من 30000 سنة
ترجمة: علي ياسر جوهرة
تدقيق: تسبيح علي
مراجعة: أكرم محيي الدين