كيف فقدت سمكة الكهف عينيها؟
تظهر في الصورة أعلاه سمكة غريبة جداً تعيش في عدد قليل من الكهوف في أمريكا الشمالية. تبدو كثيراً مثل الأسماك الأخرى، إلا من ناحية واحدة: أنه لا يوجد لديها عينين. قصة تكيفها مع الحياة في الظلام الدامس هي واحدة من أغرب القصص في التاريخ التطوري.
طفرات أم تنوع خَفِي !
عندما يفكر الناس في كيفية حدوث التطور، يتبادرإلى الذهن عادةً النموذج الكلاسيكي، حيث تمر الأنواع بالطفرات الوراثية العشوائية التي تضفي صفات جديدة لهم عند انتقالهم إلى بيئة جديدة، والصفات الأكثر فائدة (تلك التي تساعد الأفراد على التكيف بشكل أفضل في بيئتها الجديدة) تمرر إلى الأجيال اللاحقة وتنتشر في نهاية المطاف في جميع أفراد المجموعة.
انه نموذج كلاسيكي بسيط نسبيًا وسهل الاستيعاب ، ولكنه غير قادر على شرح جميع حالات التطور. قال عالِم الوِراثة في كلية الطب بجامعة هارفارد في بوسطن نيكولاس رونر Nicolas Rohner: “تخيل لو كان لديك تغيير سريع في البيئة، هذه العملية التطورية ستستغرق وقتاً طويلاً”.
لكي يتكيف الفرد بسرعة على التغيير المفاجئ في البيئة، فإنه يجب أن تتوفر لدى افراد المجموعة نوعًا من التنوع الجيني القائم، والذي ستنتقيه الطبيعة فيما بعد. ولكن كيف يمكن لهذا “التنوع الخفي” أن يستمر ويتراكم في الأنواع دون أن يؤثر ذلك على الأفراد قبل حدوث التحول البيئي؟
اقترح العلماء أن شيئاً ما يجعل التنوع الجيني صامت(غير فعال) في الظروف الطبيعية. وبعد انتقال أحد الأنواع إلى بيئة جديدة مهدِدة للحياة ، فإنه يصبح مضغوط من الناحية الفسلجية (الجسدية) مما يؤدي إلى توقف آلية الصمت أو انهيارها بطريقة أو بأخرى.
في الآونة الأخيرة، سوزان ليندكويست Susan Lindquist وهي زميلة رونر، عالِمة الأحياء في معهد وايتهيد للأبحاث الطبية الحيوية في كامبريدج في ماستشوستس، اكتشفت آلية الإسكات المحتملة: بروتين يدعى Heat shock protein 90
(HSP90) ، وهو البروتين المسئول الذي يساعد البروتينات الأخرى على الانطواء بشكل صحيح. في ظل الظروف الطبيعية، HSP90 موجود بتراكيز عالية – أعلى بكثير مما هو مطلوب وذلك لكي يسيطر على البروتينات الأخرى. ولهذا السبب، يمكن لـ HSP90 ان يكون بمثابة عازل، لتغطية التغييرات التي من شأنها أن تحدث بطرق مختلفة بسبب التنوعات الجينية للبروتينات.
مع ذلك، ولأن انطواء البروتين حساس جدا للضغط البيئي، ينخفض مستوى بروتين HSP90 تحت الظروف البيئية غير المناسبة، قاطعًا آلية الصمت ليسمح للأنماط الظاهرية الجديدة phenotypes (الصفات الوظيفية) في الظهور بسرعة. في المختبر، أظهرت ليندكويست وفريق بحثها أن هذه العملية تحدث في مجموعة متنوعة من الكائنات البسيطة، بما فيها ذباب الفاكهة والخميرة والنباتات. ولكن بعض العلماء انتقدوا هذا العمل.
قال رونر “كان الانتقاد الرئيسي أن الصفات التي أظهروها لم تكن جميعها صفات تكيفية ، لذلك كان الناس متشككين حول بروتين HSP90.
كذلك، لا أحد يعرف حقا ما السيناريو البيئي الذي سيتماشى مع العمل الذي قامت به”.
لذا خطط رونر، ليندكويست و زملائهم للعثور على مثال في العالم الحقيقي للدور التطوري الذي يقوم به HSP90. فقرروا النظر الى سمكة الكهف العمياء.
محجر بلا عين
تترا المكسيكية، Astyanax mexicanus، تتواجد هذه الأسماك في المياه العذبة وبصورة أساسية في أنهار وسط و شرق المكسيك، و كذلك في عدد قليل من الأنهار في الولايات المتحدة. في مرحلة ما في الماضي البعيد، عَلِقت مجموعة من اسماك تترا المكسيكية في كهوف دامسة الظلام تحت الماء.
في مسكنها الجديد (والمختلف إلى حد كبير) فقدت السمكة تصبغاتها وكذلك عيونها، وأصبحت أكثر قدرة على تخزين الطاقة وكشف التغيرات في ضغط المياه (لتميز فريستها وأفراد مجموعتها).
وأوضح رونر “أن أفضل ما يميز سمكة الكهف (تجويف بلا عيون) كان تغيير لغرض التكيف، من دون عيون، يمكن للأسماك توفير المزيد من الطاقة للنمو والتكاثر، بدلاً من استخدام تلك الطاقة للحفاظ على تراكيب عديمة الفائدة. بالإضافة إلى ذلك، تعد العيون من المواقع السهلة لدخول العدوى”. وأضاف “في تلك البيئة، فقدان عينيك يمنحك قليلاً من التهميش”.
ومن المثير للاهتمام، انه لا تزال هناك العديد من مجاميع تترا المكسيكي تعيش على السطح. هذه الأسماك ونظيراتها العمياء لا تزال تعتبر من نفس النوع species و يمكنها التزاوج لإنتاج الهجائن أيضاً. حيث قال رونر “في الواقع، كانت تترا المكسيكية A. mexicanus نموذج مثالي للدراسة”.
قرر الباحثون التركيز فقط على التحقق من الدور المحتمل لبروتين HSP90 في فقدان السمكة لعينيها. رفعوا الأسماك إلى السطح في وجود دواء يسمى راديسيكول Radicicol (الذي يثبط HSP90) لغرض ممارسة ضغط بيئي على السمكة.
كأسماك بالِغة، أظهرت الأسماك تفاوتاً واضحاً في حجم العين – بعض الأسماك لديها عينين أكبر أو أصغر كما لم تُشاهد من قبل ضمن مجاميعها الاعتيادية. هذه النتيجة تعني أن HSP90 يعمل في الواقع على هذه الصفة الخاصة (حجم العين).
ثم كرر الباحثون التجربة مع سمكة الكهف. وكانت النتائج مختلفة تماما: لم تظهر الأسماك البالغة أي اختلاف عظيم في حجم محجر العين Orbit (تجويف في الجمجمة حيث ينبغي على العين أن تكون). بدلا من ذلك، أظهرت الأسماك جميعها حجم أصغر لمحجر العين.
اضاف رونر “إذا لعب HSP90 دورا في تطور أسماك الكهف، فأنه لابد من وجود انتقاء لبعض الأليلات (المتغيرات الجينية) التي تستجيب لHSP90. وتبين هذه النتيجة أن الأليلات التي تم اختيارها (الأليلات التي تجعل العيون أصغر) هي تلك التي كانت مستهدفة من قِبَل HSP90″.
وبعد ذلك، أراد فريق العمل معرفة ما إذا كان الاختلاف الخفي في حجم العين الذي كشفوه عن طريق تثبيط HSP90 يمكن استيعابها وراثياً أو يمرر نزولاً إلى الأجيال اللاحقة. فقامو بتزويج الأسماك التي تم معاملتها بالراديسيكول Radicicol التي أظهرت عيون صغيرة (بدلاً من تلك الكبيرة). أظهر النسل (الذي لم يتم معاملته بالراديسيكول) عيونًا أصغر من تلك التي لم يتم معاملتها بالراديسيكول وقابلة للمقارنة مع عيون الأسماك التي تم معاملتها بالراديسيكول.
قال رونر”هذا يظهر بأن الصفات الأصلية التي رأيناها كانت وراثية حقاً وليس مجرد عبث المثبطات مع تطور أسماك”.
البيئة الُمجهِدة الجديدة
على الرغم من إظهار الباحثون أن نوعاً من الضغط المستحث كيميائيًا قد يؤدي الى إظهار التنوع الخفي، فلا يزال هناك سؤال ما إذا كانت الأسماك السطحية التي وجدت نفسها فجأة محاصرة في بيئة الكهف سوف تختبر الاستجابة للضغوط المتعلقة ببروتين HSP90. لمعرفة ذلك، ألقى الباحثون نظرة فاحصة على الاختلافات البيئية بين أسماك السطح وسلوك أسماك الكهف، تتضمن درجة الحموضة PH ومحتوى الأكسجين ودرجة الحرارة.
وجدوا أن الفرق الأكبر بين البيئتين كان الموصلية conductivity، والتي تقاس كملوحة salinity. بالنسبة للأسماك، موصلية المياه هي في غاية الأهمية، فإذا وضعت أسماك المياه العذبة في المحيط، ربما لن تبقى على قيد الحياة.
قال رونر”البشر لديهم الجلد الذي لا يسمح للمياه بالمرور خلاله، ولكن الموصلية هي مشكلة حقيقية بالنسبة للأسماك. هذا يمثل ضغطاً رئيسياً بالنسبة لهم”. اكتشف الفريق أن الموصلية كانت أقل بكثير في الكهوف مما كانت عليه في الأنهار، مما يشير إلى أن الأسماك السطحية التي تنتهي فجأة في الكهوف ستصبح مضغوطة فسلجيًا (جسديًا) وتعاني استجابات لبروتين HSP90 .
اختبر العلماء هذه الفكرة عن طريق تربية الأسماك السطحية في مياه ذو موصلية كتلك التي في بيئة الكهف.الاسماك البالغة، أظهرت اختلافًا في حجم العين، تماماً كذلك الاختلاف الذي أظهرته تحت تاثير المثبط راديسيكول radicicol.
وإجمالاً، فإن الدراسة تشير بقوة إلى أن الأسماك السطحية في الأصل لديها نوع من التنوع الخفي في حجم العين، والذي كان مختبىء بواسطة بروتين HSP90. عندما تستقر الأسماك بطريقة أو بأخرى في الكهوف، الموصليطة المنخفضة (و من المحتمل عوامل بيئية أخرى) تمارس ضغطًا فسلجيًا على السمكة، مستنفدة مستوياتها من HSP90. تنوع حجم العين يصبح مكشوفًا، والطبيعة اختارت بسرعة تكيف العين الصغيرة كنمط ظاهري. في الأجيال اللاحقة امتلكت الأسماك عيونًا أصغر فأصغر، فتصبح الأسماك أفضل تكييفًا مع البيئة الجديدة، مما يتيح لمستويات HSP90 في العودة في نهاية المطاف إلى وضعها الطبيعي.
الأهم من ذلك، قد أظهر الباحثون دليلاً على نمط التباين الخفي للتطور الظاهري. وقال رونر”عادة عندما يفكر الناس في آليات التطور،يفكرون في التغييرات في الترميز، والتغيرات التنظيمية وغيرها من الأمور، ولكن هذه آلية مختلفة تعمل من خلال التنوع الجيني القائم. نأمل أن هذا الدليل سيساعد في إقناع الناس بأن هذه الآلية قد تكون صالحة، على الأقل في الحالات التي تتعامل فيها مع التغيرات السريعة في البيئة.”
نورة بوزوه