منذ آلاف السنين عمل البشر على دراسة الكون وحركة الأجرام السماوية، ففهم كيفية حركة القمر والشمس ساعد أسلافنا على التكيف والازدهار عبر الفصول المتغيرة، والتوسع في ذلك شمل الكواكب ما أعطانا فكرة عن مكاننا في الكون.

وقد برز صغر حجمنا مع ظهور علم الفلك الدقيق قبل عدة قرون، لكن كيف يعمل الفلكيون على تحديد مواقع الأشياء بالنسبة لنا؟

تختلف الطرق بحسب الوقت وما نحاول رسمه، إذ نحاول رسم خريطة لكثير من الأشياء في الكون، بعضها للحفاظ على كوكبنا آمنًا، وبعضها لفهم مجرتنا وتشكيلها، وبعضها للإجابة على أعمق الأسئلة في علم الكونيات.

اعرف عدوك:

الميكانيكا السماوية معقدة، إذ تنص معضلة الأجسام الثلاثة على عدم وجود حل دقيق لحركة ثلاثة أجسام في مجال جاذبية، فكيف بالآلاف منها كما في النظام الشمسي. وطريقة حلنا لهذه المسألة هي بقياس مواقعها مرارًا وتكرارًا.

أما بالنسبة للكواكب والأقمار، فلا يجب علينا فعل ذلك باستمرار، لأننا نعرف ما يكفي عنها لمعرفة مكانها لفترة طويلة. ولكن عندما يتعلق الأمر بالأجسام الأصغر مثل الكويكبات، فمن المهم فهم مداراتها الدقيقة، وتضاعف أهمية هذا بالنسبة للأجسام القريبة من الأرض، تلك الكويكبات والمذنبات التي تقترب جدًا من كوكبنا، لأنها قد تصطدم بنا.

غالبًا ما تُعد هذه الصخور الفضائية الصغيرة نسبيًا داكنة جدًا، ما يجعل مسألة العثور عليها أصعب، لكن هذا لم يمنع الفلكيين من مواصلة جهودهم. فباستخدام التلسكوبات الراديوية وتحت الحمراء والبصرية، اكتُشِف 90% من الكويكبات القاتلة للكواكب (التي يزيد قطرها عن كيلومتر واحد) في آخر 25 عامًا.

لكن الأمر ليس بالعثور عليها وحسب، فتكرار الرصد مهم لأنه يسمح لنا بفهم مدارات تلك الأجسام بطريقة أفضل، ومعرفة مكانها السابق وتوقع مكانها المستقبلي. أحد التطورات الحديثة المثيرة في هذا المجال هو استخدام تقنية الرادار، التي تسمح بدقة أكبر في تحديد المعايير المدارية.

مكاننا بين النجوم:

بوسع الرادار العمل على الأغلب حتى مدار زحل، لكننا نريد معرفة مكاننا في مجرة درب التبانة. النهج الأول هو تحديد مسافة النجوم باستخدام طريقة التزيح (البارالاكس)، ما يُدخل بعض علم المثلثات في علم الفلك، إذ يدرس علم المثلثات توابع الزوايا (الجيب وجيب التمام والظل).

يفيد هذا في علم الفلك عندما نستطيع إنشاء المثلثات بمعرفة كيف يتغير الموضع الظاهري لنجم في السماء مع حركة كوكبنا حول الشمس، والزوايا المعنية صغيرة جدًا، ولكن مع قياسات دقيقة بما فيه الكفاية، نستطيع قياس مسافة الكثير من النجوم.

لا يوجد جهاز أكثر دقة لهذه المهمة من المركبة الفضائية غايا التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية، فقد أنشأت الخريطة الأكثر دقة لمجرة درب التبانة، إذ حددت موقع أكثر من مليار نجم وحركاتهم بالإضافة إلى الكواكب الخارجية والمذنبات والكويكبات في النظام الشمسي، وحتى بعض الثقوب السوداء.

شكل الكون:

ماذا عن الكون الأوسع؟ فلفترة طويلة كنا على دراية بمجرتنا فقط، ولم تكن لدينا طريقة لقياس الأشياء البعيدة، وطريقة التزيح جيدة بقدر دقتنا فقط.

ولكن فجأة أصبح ذلك بمتناول أيدينا بفضل عالمة الفلك هنريتا سوان ليفيت، فقد أظهرت أعمالها وجود نوع معين من النجوم يُسمى المتغيرات القيفاوية، لها علاقة محددة بين فترة تغيرها واللمعان الذاتي لها.

فإذا كنا نعرف مدى لمعان جسم معين وقياس السطوع الظاهري له بعد أن قطع الضوء مسافة طويلة، نستطيع حساب تلك المسافة. وهذا هو مبدأ الشموع القياسية. فبقياس فترة المتغيرات القيفاوية، أصبح لدينا أخيرًا طريقة لقياس المسافات خارج المجرة.

لم يكن علماء الفلك يعلمون بوجود شيء كذلك إلى أن اكتشف إدوين هابل المتغيرات القيفاوية في عدة سُدُم، ومن ضمنها مجرة أندروميدا، إذ أدرك أنه لا يمكن أن تكون في درب التبانة، فتلك النجوم كانت في مجرات أخرى.

وفي أثناء دراسته لهذه المجرات المكتشفة حديثًا قبل نحو قرن، اكتشف هابل شيئًا آخر مهمًا أيضًا، فجميع تلك المجرات تقريبًا تتحرك بعيدًا عنا. كانت هذه أول دليل على أن الكون يتمدد.

نعلم أنها تتحرك بعيدًا لأننا نستطيع قياس انزياحها نحو الأحمر، هذه الظاهرة مشابهة لانزياح دوبلر، وهو شيء نختبره غالبًا على الطرقات. إذا كانت سيارة إسعاف تقترب منّا بصافرتها، سيكون صوتها أعلى وعندما تمر وتبتعد عنّا سيصبح الصوت أخفض. فالصوت لا يتغير، لكن الموجات الصوتية تنضغط عندما تتحرك السيارة نحونا وتمتد عندما تبتعد.

إذا تحركت بسرعة كافية، يحدث الشيء نفسه مع الضوء. الأشياء التي تتحرك نحونا تصبح أكثر زرقة (موجاتها الضوئية تنضغط) والتي تتحرك بعيدًا تصبح أكثر احمرارًا. الانزياح نحو الأحمر ليس انزياح دوبلر حقيقيًا، لأن الانزياح ليس ناجمًا عن حركة المجرات بحد ذاتها، بل عن توسع الكون.

ساعدنا استخدام الشموع القياسية والانزياح نحو الأحمر على بناء صورة ثلاثية الأبعاد للكون، ومن هنا نأمل في العثور على إجابات لأكبر الأسئلة المفتوحة في علم الكونيات: ما هي المادة المظلمة والطاقة المظلمة؟ هذان المكونان يشكلان 95% من محتوى المادة-الطاقة في الكون. والباقي هو المادة العادية التي تكوّننا.

إضافةً إلى ذلك، المجرات ليست موزعةً عشوائيًا عبر الفضاء؛ فهي منظمة في بنية تُسمى الشبكة الكونية تتشكل بفعل جميع أشكال المادة والطاقة. وفهم ماهية هذه البنية بدقة -بالمسوحات المخطط لها مثل مرصد فيرا روبين- سيقدم رؤىً هامة في هذا الغموض، وربما يوفر الحلول.

منذ العصور القديمة، استخدمنا السماء للملاحة على كوكبنا ورسم خرائط توصلنا من مكان لآخر. لذا، فمن الطبيعي أن يمتد هوسنا برسم الخرائط من نقطتنا الزرقاء الباهتة إلى أبعد المجرات التي رأيناها.

اقرأ أيضًا:

شركة يابانية تخطط لبناء مصعد فضائي يربط الأرض بالفضاء

التقاط إشارات راديوية غامضة من الفضاء العميق والعلماء يكافحون لفهم ما تعنيه

ترجمة: زين العابدين بدور

تدقيق: محمد حسان عجك

المصدر