حلمَ البشر بالسفر عبر الفضاء منذ قرون عدة، وقبل مدة طويلة من قدوم التكنولوجيا المذهلة التي تقف وراء الاستكشاف الفضائيّ اليوم.
فقد تمكّنا من السفر في الفضاء خلال القرن السابق فقط، إلّا أنّ رغبة البشريَّة في الصعود إلى القمر كانت أقدم بكثير.
ففي القرن الثاني ميلادي، كتب الأديب السرياني لوسيان الساموساطي (Lucian of Samosata) مجموعة قصصيَّة تعرف باسم «التاريخ الحقيقي- Lucian’s True History»، حيث تخيَّل فيها الكاتب رحلة إلى القمر لمجموعة من الباحثين عن المغامرة.
وجاء زمن تحوَّلت فيه أحلام السفر نحو القمر إلى أفكار جادَّة، حيث تم تسجيل أول حساب تقني لكيفيَّة السفر إلى القمر في القرن السابع عشر.
وتمّ استلهام ذلك من الاكتشافات الفلكيَّة دون شك.
لوقتٍ طويل، ظن البشر أنّ العالم محاطٌ بكراتٍ أثيريَّة أو كرستاليَّة تتواجد ضمنها الأجرام السماويَّة.
لكن بعد ذلك، تمكن جاليليو من جمع بيانات رصدٍ كافية لدعم نظريَّة مركزيَّة الشمس التي قدمها كوبرنيكوس، وكان معنى ذلك أنّه تمَّ اعتبار القمر، ولأوَّل مرة في التاريخ، كجرمٍ صلب شبيه بالأرض.
وفي عام 1610، نشر جاليليو كتاب «الرسول النجمي- Starry Messenger»، حتَّى أنه أضاف بعض الرسومات التوضيحيَّة للقمر الغريب.
أمَّا في عام 1620، فقد تمَّ تقديم الحفلة التنكريَّة التي تحمل اسم «أخبار من العالم الجديد المكتشف في القمر- News from the New World Discovered in the Moon» لكاتبها المشهور بين جونسون (Ben Jonson) أمام الملك جيمس الأوَّل (King James I)، حيث قام العرض على ترفيه الحضور بالسخريَّة، ووجّه الأنظار نحو آخر الآراء الفلكيَّة.
في ظل هذه الحماسة لاكتشاف القمر، نشر صاحب الـ 24 عامًا جون ويلكنز (John Wilkins)، والمتخرج من جامعة أكسفورد، النسخة الأولى لكتاب «اكتشاف عالم في القمر – The Discovery of a World in the Moone»، وكان ذلك سنة 1638.
وقد عزَّز الكتاب شرح جاليليو للقمر كعالَمٍ صلب قابل لاحتضان الحياة.
عالم في القمر:
أثناء تحضيره للنسخة الثانيَّة من الكتاب التي نُشرت سنة 1640، كان وليكنز معجبًا للغاية بقصة فرانسيس جودوين (Francis Godwin) التي تحمل عنوان «الرجل في القمر – The Man in the Moone» والمنشورة سنة 1638.
وكان دومينجو جونزاليس (Domingo Gonzales) أحد شخصيات هذه القصة، والذي نُقل إلى القمر في عربة يسحبها قطيعٌ من الإوز.
فبعد قراءته لهذه القطعة من الخيال العلمي للقرن السابع عشر، اقترح ويلكنز وجوب القيام برحلاتٍ نحو القمر، شرط ألّا يكون ذلك سفرًا عرضيًّا وحسب، بل يجب القيام برحلاتٍ دوريَّة، واستيطان القمر.
بعد دراسته لسيناريوهات خياليَّة متعددة، طمح ويلكنز إلى «شحن بعض الأرواح البارزة بهدف القيام بمحاولاتٍ جديدة واختراعاتٍ غريبة»، وإيجاد طرقٍ عمليَّة «لجعل القمر أقرب» من خلال السفر عبر الفضاء.
وفي النسخة الثانيَّة من الكتاب، ركّز الكاتب على التقنيَّات، فقال في كتابه:
«أؤكد بشكلٍ جدي، ومن خلال أسسٍ جيّدة، إمكانية صنع عرباتٍ طائرة».
قام ويلكنز بتصميم وشرح العديد من الأجهزة الطائرة التي تعمل بالطاقة البشريَّة، أو المسحوبة بطيورٍ مهيبة وغريبة، حتَّى أنه تخيل مُحركِّا يعمل بنفس مبادئ الحمام والنسور الميكانيكيَّة.
كما أشار إلى التحديَّات أمام السفر نحو القمر، وعبّر عن غيظه من عدم منح العناية الإلهيَّة قدرة الطيران للجسم البشري.
سرد الكاتب كذلك عوائق السفر من الأرض، وحذَّر بشكلٍ ساخر من أننا لن نجد «أيَّة قصور في الهواء لاستقبال الحجاج الفقراء، أو الفرسان الهائمين».
كما ناقش طبيعة الجاذبيَّة، حيث يصعب جلب الطعام والماء إلى القمر بهدف النجاة في الهواء القمري البارد الرقيق.
ومن جهة أخرى، يُصرّح ويلكنز بثقة كاملة بأنّه قد اكتُشفت طرق للنقل عبر الفضاء في المستقبل.
فقد تنبّأ أنّه «بمجرد اكتشاف فنّ الطيران»، سيقوم البشر «ببناء أولى المستوطنات التي يجب أن تُزرع في ذلك العالم الآخر»، ممجّدًا مستقبل السفر الفضائي.
يُختتم كتاب الاكتشاف بنبوءة ويلكنز، مُشيرًا إلى تعجُّب الأجيال القادمة من جهل عصره.
لكنّ قُرّاء العصر الحديث لم يشعروا بهذا الشعور، فعلى الرغم من الخطأ الفادح في استنتاجاته عن القمر، ومن بدائية الحلول التي اقترحها، إلا أنّ بحوثنا حول القمر تتبع نفس النهج للأسئلة المطروحة في ملحمته الفضائيَّة منذ عام 1640، فيما يتعلّق بوجود الماء، وإمكانيات السفر الدوريّ والاستيطان.
كان قصد الشاب جون ويلكنز استفزاز فضول القراء بخصوص «الحقائق السريَّة» حول الطبيعة، وقد نجح في ذلك منذ قرونٍ مضت.
فدائمًا ما نرى الاستكشاف الفضائي متجلّيًا بالتكنولوجيات المذهلة، والمكلفة أيضًا.
أليس هذا هو السبب الذي جعل برامج السفر نحو القمر تتأخر لسنوات؟
في القرن السابع عشر، كانت حوافز تصميم طرقٍ من أجل السفر نحو القمر مشابهة لمحفزاتنا المعاصرة فيما يخصّ الاستكشاف الفضائي عندما تم تشكيلها في فجر برنامج أبولو الفضائي، فقد حلم الناس بدفع حدود البشريَّة نحو الأمام، واستخدام المعرفة النافعة في الحياة.
وأخيرًا، فالآلات ليست وحدها من دفع بالبشر نحو الفضاء، بل فضول الإنسان، وقدرته على التخيل، كانت سبب رغبته في الوصول إلى آفاق جديدة.
- إعداد : وليد سايس.
- تدقيق وتحرير: سهى يازجي.
- المصدر