يبدأ الأمر مع وميضٍ أكثر بريقًا من الشَّمس.
فتضرم النيران فورًا بالأشجار والأسوار والناس.
والسَّبب الوحيد لبقائك على قيد الحياة أنَّك غطست في حوض الاستحمام عند وصول الموجة.
تتعثر حتى تصل إلى باب منزلك المتداع وتنظر إلى منزل الجيران المحترق، حين تكون جزئيات الأشعة القاتلة في الجو في طريقها إليك.
فهل تبقى حينها في منزلك المتهالك أم تهرب إلى المكتبة العامة في مدينتك لتختبئ هناك؟
صيغة رياضية جديدة قد تحمل لنا الإجابة المطلوبة عن هذا السؤال.
هذا النموذج هو من بنات أفكار (مايكل ديلون- Michael Dillon) العالم في الغلاف الجوي في مختبر (لورانس ليفرمور الوطني – Lawrence Livermore National Laboratory) في كاليفورنيا، الذي بدأ استكشاف هذا الموضوع منذ 5 أعوام تقريبًا بعدما طالبت الحكومة الأمريكية بمزيد من البحوث حول الملاجئ النووية.
وصرح ديلون أنه حين سألته أسرته عمَّا ينبغي عمله إذا رأوا سحابة فطر* (mushroom cloud) مثلًا.
فإنه لم يملك أي جوابٍ جيّدٍ يمكنه أن يقوله لهم حينها.
بدورها، أوصت الحكومة الأمريكيَّة بـ «الإحتماء في أقرب وأكثر المباني أمنًا».
وبالنسبة لمعظم الناس فهذا يعني الطابق السّفلي من المنزل، إلا أن ديلون أشار إلى عدم توافر ما يكفي من الطوابق السفلية في ولاية كاليفورنيا مثلًا لحماية هؤلاء الناس، والتَّوصيات الرَّسميَّة تقترح الانتقال المبكر لإيجاد أفضل مأوى، باعتبار أن الناحية المثالية تتمثل بوجود طبقات سميكة من الأسمنت فوق رأسك مع توافر الكثير من المواد الغذائيَّة والمياه.
ولكن إذا أنفقت الكثير من الوقت في الخارج فسوف تصبح كالخبز المحمص!
خلال الحرب الباردة، حاكى العلماء كل النتائج التي يمكن تخيلها من انفجار نووي.
لكن ديلون وجد ثغرة في استراتيجيات إيواء الناس البعيدين كفاية عن نقطة الصفر* للنجاة من الإنفجار الأولي والقريبين كفاية للتعرض للآثار النووية القاتلة*.
وركز ديلون في تجاربه على القنابل النووية ذات النتائج المحدودة كتلك التي استخدمت في هيروشيما وناغازاكي.
وبالنظر إلى نمو الترسانة النووية في العالم التي جعلت من الرؤوس النووية الحربيَّة أكثر قوة وقدرة على إلحاق ضرر يُقدر بأنه أكبر بآلاف المرات فخبراء الأمن يعتقدون أن القنابل ذات القدرات المحدودة هي النوع الأكثر شيوعًا لاستخدامها من قبل الإرهابيين.
الجزء الصعب هو معرفة المتغيرات المهمة للنجاة من البقايا النووية.
أما بقية الأمر فهو حسابات، فكلما بقيت أكثر خارجًا كلما ازدادت جرعة الإشعاع التي تتلقاها، ولكن شدة الإشعاع تنخفض في البيئة المحيطة بمرور الوقت أيضًا.
وبذلك فالجرعة الإجمالية التي تتعرض لها تتوقف على تنقلك خارجًا، كالمسافة التي تفصلك عن التفجير، الوقت المستهلك قبل أن تصل إلى مأوى أفضل، ونوعية الحماية التي تتلقاها من البيئة المحيطة أثناء تنقلك حتى تصل إلى ذلك المكان.
بسط ديلون الحسابات بافتراض أنك تتعرض تمامًا للإشعاع أثناء تنقلك للمأوى الأكثر أمانًا وتجاهل أيضًا تعقيداتٍ مثل قدرات الاستيعاب المحدودة للمأوى.
في النهاية، قلصت الرياضيات المشكلة إلى نسبة هامة واحدة: نسبة الوقت الذي تقضيه في الملجأ الأول إلى الوقت الذي تقضيه في الانتقال إلى الملجأ الأفضل.
ثم لاحظ ديلون ما سيحدث في مجموعة من الحالات سواء للمأوى أو أوقات التنقل.
وحصل ديلون على نتائج مفاجئة.
ففي حالة التفجيرات النووية ذات قدرة تدميريَّة منخفضة، يمكن أن يكون انتقالك أفضل بكثير من البقاء حيث أنت، ولكن عليك أن تحمل ساعة يد وتكون على معرفة جيدة بمحيطك.
فإذا كان المأوى الحالي لك ضعيف والمأوى الأفضل يبعد بأقل من 5 دقائق، فيشير النموذج إلى وجوب الانتقال إلى هناك بأسرع ما لديك.
أما إذا كان المأوى الأعلى جودة يبعد عنك بمسافة أكثر من ذلك فعليك حينها أن تضبط ساعتك وتصل إلى هناك بمدة لا تتجاوز الـ 30 دقيقة على أبعد تقدير بعد وقوع التفجير.
وبالنتيجة فاعتمادًا على حجم المدينة فإذا ألتزم الجميع بهذه النَّصيحة فيمكن إنقاذ بين 10,000 إلى 100,000 شخصًا.
النتائج التي توصل إليها ديلون لم تقنع الجميع كالعالِم في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا (لورانس وأين- Lawrence Wein) الذي يقول: «أنا لا أتفق مع الاستنتاجات كون تلك الحسابات قد فشلت في العديد من القضايا الهامة في سياسات التوصيات المفترض العمل بها».
ويشرح ذلك بأن الأشخاص الذين يخرجون باتجاه الأراضي المقفرة لا يملكون أدنى فكرة عن الوقت الفعلي اللازم للانتقال.
وبسبب هذا الغموض تؤكد توصيات الحكومة الأمريكيَّة الرسميَّة على الإختباء لمدة 12 ساعة على الأقل بعد الانفجار.
وعبر واين عن قلقه أيضًا إزاء مشكلة السلوك الجماعي.
ففي أعقاب حادث جزيرة الثلاثة أميال، أٌجبِر آلاف الأشخاص على إخلاء المنطقة وبقي 200,000 شخص في الشوارع.
ونموذج ديلون يفترض أنه بإمكانك التحكم بالناس كالدمى.
لكن هذا ببساطة لا يحدث في أعقاب كارثة ما.
ولكن هذا انتقاد يغفل نقطة هامة بحسب تعبير (نورمان كولمان- Norman Coleman)، الباحث في مجال الصحة العامة في المعاهد الوطنية الأمريكية للصحة في بيثيسدا بولاية ماريلاند الذي يقول: «بالنسبة لشخص يعمل مع الحكومة والدولة والمخططين المحليين، فنحن نجد هذه النماذج مفيدة للغاية لمساعدتنا في تطوير مفاهيم العمليات»، وأشار إلى أن هذا الانتقاد لا يعدو كونه رأي شخصي وليس ردًا من الحكومة الأمريكيَّة الرسميَّة.
فعلى سبيل المثال، معرفة حجم الفرص للأشخاص للوصول إلى مأوى أفضل يمكن أن يساعد في ترتيب خطط الإخلاء على أقل تقدير، ويبين نموذج ديلون ما يمكن فعله وما لا يحتمل أن يكون مفيدًا.
هوامش:
سحابة فطر (mushroom cloud): الغيمة الناتجة عن الانفجار النووي أو أي انفجار كبير تسمى بسحابة الفطر كونها تبدو على شكل الفطر ويرجع ذلك إلى النيران فكلما ازداد حجمها وبردت، تتكاثف الأبخرة لتشكيل سحابة تحتوي على جزيئات صلبة من الحطام، فضلًا عن قطرات الماء الناتجة من الهواء المصطدم بالنيران المتصاعدة.
نقطة الصفر (ground zero): نقطة على سطح الأرض تكون أسفل أو أعلى التفجير النووي مباشرة.
الآثار النووية القاتلة (Fallout): هي الجسيمات المشعة التي تسقط باتجاه الأرض نتيجة انفجار نووي.
وتتألف من حطام السلاح ونواتج الانشطار وفي حال وقع الانفجار على الأرض، فيشمل أيضًا التربة المشعة، تختلف جزيئات الغبار في الحجم وتتراوح بين آلاف المليمترات إلى عدة مليمترات.
الكثير من هذه المواد تسقط مباشرة نحو نقطة الصفر في غضون عدة دقائق بعد الانفجار، والبعض الآخر ينتقل عاليًا بالغلاف الجوي.
وتتناثر هذه المواد على الأرض خلال الساعات أو الأيام أو الأشهر التالية.
تصنف الآثار النووية لنوعين: آثار مبكرة، في غضون الـ 24 ساعة الأولى بعد وقوع انفجار، أو تتأخر لتحدث بعد أيام أو سنوات لاحقة.
- ترجمة: دعاء عساف
- تدقيق: يحيى أحمد
- تحرير: ناجية الأحمد
- المصدر الأول
- المصدر الثاني
- المصدر الثالث
- المصدر الرابع