لام البعض الآلهة على انتشار الأوبئة، واتهم البعض أعداءهم، بينما ألقى البعض اللوم على النجوم واصطفاف الكواكب، لكن السبب عند الكثيرين لم يكن إلّا «الهواء السيئ الخانق».
عبر آلاف السنين، تبنى الناس بعض التفسيرات غير العقلانية لانتشار الأمراض المُعدية كالطاعون والكوليرا، وبعض هذه الأفكار كانت مضحكة كأنها جزء من عرض تلفزيوني ساخر عن العصور الوسطى، مثل فكرة الإصابة بعدوى الطاعون القبرصي فور التحديق في وجه المصاب.
مع أن أمواجًا من الأمراض أغرقت المراكز السكانية مرةً بعد مرة، فقد استغرق العلم قرونًا ليفهم عالم الجراثيم التي لا تُرى بالعين المجردة، وإلى أن فهم العلم ذلك، حاول الناس المحاصرون بالأوبئة تفسير موجة الموت الهائلة التي رأوها بأساليب مختلفة، فاستعمل بعضهم المشاهدات البسيطة، ولجأ البعض الآخر إلى المعتقدات العاطفية الانفعالية، في حين نظر البعض إلى الجائحة بعين تحيزاتهم المسبقة، واتخذ البعض الخرافات والفرضيات العجيبة سلاحًا يجابهون به المصيبة. فيما يلي أمثلة عن هذه التفسيرات القديمة.
غضب الآلهة
حين أخذت جموع الناس تموت لأسباب غامضة، أرجعت ثقافات مبكرة كثيرة الأمر إلى فعل إله غاضب أو مجموعة آلهة قاسية، فإن قرأنا الأساطير الإغريقية القديمة -التي كثيرًا ما كانت رمزًا لأحداث واقعية- فسنجد هوميروس يكتب في إلياذته عن الإله أبولو الذي أمطر الجيش الإغريقي بالوباء إبان حرب طروادة، قاتلًا الحيوانات أولًا ثم الجنود، وهكذا أصبحت سهام أبولو رمزًا للمرض والموت.
ورمى الفلك من بعيد بسهمٍ من لجين فزلزلت زلزالًا، ضرب الغضف والبغال فألقى شرَّ سهمٍ فجندل الأبطال، فتولت نيران موتاهم إثر وباءٍ بالفتكِ تسعًا توالى (هوميروس، الإلياذة، النشيد الأول، ترجمة سليمان البستاني).
ويُشير الكتاب المقدس إلى الأوبئة مرارًا بأنها غضب الذات الإلهية، وفيما يلي بعض الأمثلة:
لأَنِّي هذِهِ الْمَرَّةَ أُرْسِلُ جَمِيعَ ضَرَبَاتِي إِلَى قَلْبِكَ وَعَلَى عَبِيدِكَ وَشَعْبِكَ، لِكَيْ تَعْرِفَ أَنْ لَيْسَ مِثْلِي فِي كُلِّ الأَرْضِ (سفر الخروج، 14:9).
وَإِذْ كَانَ اللَّحْمُ بَعْدُ بَيْنَ أَسْنَانِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَنْقَطِعَ، حَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى الشَّعْبِ، وَضَرَبَ الرَّبُّ الشَّعْبَ ضَرْبَةً عَظِيمَةً جِدًّا (سفر العدد، 33:11).
ويل لنا من ينقذنا من يد هؤلاء الآلهة القادرين هؤلاء هم الآلهة الذين ضربوا مصر بجميع الضربات في البرية (صموئيل الأول، 8:4).
حركة الأفلاك والهواء السيئ
اتخذت موجات أوبئة الطاعون المدمرة عبر القرون مختلف الأشكال، فمرة هي الطاعون الدبلي المؤثر في الجهاز الليمفاوي، ومرة هي طاعون رئوي -يهاجم الرئتين- ومرة هي طاعون إنتان الدم -يخترق مجرى الدم- ولعل أقسى الأوبئة كان «الموت الأسود» الذي انتشر في منتصف القرن الرابع عشر، إذ أدى إلى مصرع نحو 20 مليون شخص في أوروبا فقط، ويُعتقد أن سببه كان البكتيريا التي تحملها البراغيث، إلا أن معاصريه اعتقدوا بمختلف التفسيرات، خصوصًا بأسباب متصلة بالتنجيم والأبخرة الفاسدة.
سنة 1348 مثلًا، طلب ملك فرنسا فيليب السادس من أعظم العقول الطبية في جامعة باريس حينها تقريرًا عن أسباب الطاعون الدبلي، فقدموا وثيقة مفصلة تلوم «ترتيب أجرام السماوات»، وكتبوا عن سنة 1345 أنها شهدت «في الساعة الأولى بعد الظهيرة بتاريخ 20 مارس، اقترانًا عظيمًا بين الكواكب الثلاثة، زحل والمريخ والمشتري في برج الدلو»، إضافةً إلى خسوف حدث تقريبًا في الوقت ذاته.
ربط الباحثون الطبيون الباريسيون -مستشهدين بالفلاسفة القدماء كألبيرت الكبير وأرسطو- بين الكواكب والوباء، قائلين: «يجذب المشتري بوصفه كوكبًا رطبًا حارًا الأبخرة الشريرة من الأرض والمريخ لإفراطه في الرطوبة والحرارة، ثم يُشعل هذه الأبخرة، ولذلك وُجد برق وشرر وأبخرة فاسدة ونيران تجتاح الهواء»، وتابعوا قائلين إن الرياح الأرضية نشرت الهواء الفاسد ليضرب روح أي شخص يتنفسه: «يخترق هذا الهواء الفاسد الرئتين والقلب ويفسد جوهر الروح ويؤدي إلى تعفن الرطوبة المحيطة، فتدمر الحرارة الناتجة قوة الحياة، هذا هو السبب المباشر وراء الوباء الحالي».
مُنحت هذه الأبخرة الفاسدة اسمًا جديدًا بعد بضعة قرون، هو «ميازما» أو «مياس»، ظن الناس أنك إن شممت رائحة سيئة فذلك دليل على حملها للأمراض، لهذا ارتدى بعض الأطباء إبان وباء سنة 1665 م أقنعة لها شكل منقار، مملوءة بالورود طيبة الرائحة، ليحموا أنفسهم من العدوى.
لم يكن الشاعر والكاتب المسرحي وليام شكسبير يستحم بانتظام، مثله مثل سائر سكان لندن في أوائل القرن السابع عشر، ومثلهم عاش بين الجرذان والقذارة والبراغيث وبالوعات الشوارع المليئة بمياه المجاري، ومع ذلك كان هو أيضًا يظن أن الطاعون كان أمرًا مرتبطًا بالجو، بل كتب أن سبب الملاريا -وباء يسببه البعوض في المستنقعات المنتشرة على طول نهر التايمز- هو الأبخرة الناتجة عن المستنقعات بفعل الشمس.
لعل كل العفن الذي تجففه الشمس، من السباخ والمستنقعات والمسطحات، يقع على بروسبيرو فيجعله، بالتدريج، مرضًا يمشي على قدمين. (شكسبير، مسرحية العاصفة).
نظريات المؤامرة والتعلق بقشة
حفزت الأوبئة التحامل والارتياب وزادت من حدة التحيزات القديمة، إذ مالت المجتمعات المصابة إلى إلقاء اللوم على قذارة الآخرين أو خبثهم في انتشار الأوبئة.
في العصور الوسطى، اتخذ الأوروبيون الطاعون عذرًا لذبح اليهود وقتلهم، فهاجم رعاع المسيحيين الغيتوات -الأحياء اليهودية- مع كل موجة من الوباء، مدّعين تسميم اليهود للآبار وتآمرهم مع الشياطين لنشر المرض. في إحدى المذابح في مدينة ستراسبورغ بتاريخ 14 فبراير 1349، أُحرق 2000 يهودي أحياءً.
صارت الكوليرا التي انتشرت في أوروبا خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين موضوعًا لنظريات المؤامرة الطبقية، إذ اتهم الفقراء والمهمشون طبقة الأثرياء والحكام بمحاولة التخلص منهم بإمراضهم عمدًا، فاندلعت عشرات أعمال الشغب في أوروبا، في روسيا وإيطاليا والمملكة المتحدة، وقُتل أعضاء المؤسسات الطبية والحكومية والشرطة ودُمِّرت المستشفيات ومباني البلدية.
مع غياب اليقين العلمي، كثيرًا ما جعلت الأوبئة الناس يتمسكون بأي سبب مباشر يلاحظونه حولهم يفسر الكارثة. إبان وباء الأنفلونزا الروسية سنة 1889، تطورت فرضيات عجيبة إلى شائعات انتشرت انتشارًا واسعًا، حتى أن صحيفة «نيويورك هيرالد» خمنت أن الإنفلونزا قد تنتقل عبر أسلاك التلغراف، بعد أن أصيب عدد كبير من عمال التلغراف بالمرض، وافترض آخرون أن الإنفلونزا ربما وصلت بواسطة رسائل أُرسِلت من أوروبا، إذ وقع سعاة البريد فريسة للمرض، أما في ديترويت فقد افترض البعض أن المرض ينتقل بواسطة النقود الورقية بعد أن أصاب صرافي البنوك، ووجه البعض أصابع الاتهام نحو الغبار وطوابع البريد والكتب.
أخيرًا بدأ العلم يرى ما خفي ويشرح سبب سقوط الناس صرعى بالآلاف، فقد اعتقد الناس في العصور الوسطى أن العطس لا ينقل «الموت الأسود» وحسب، بل يجعل الروح تغادر جسد المرء أيضًا، وأثر من هذا الاعتقاد ما زال حيًا في عبارة «يحميكم الله» أو «يرحمكم الله».
اقرأ أيضًا:
الإنفلونزا الإسبانية: الوباء الأشد فتكًا في التاريخ
إن كنت تظن 2020 سنة صعبة، فأنت لم تسمع بما حدث في 536!
ترجمة: الحسين الطاهر
تدقيق: سمية بن لكحل