في يوليو 2015، صنعت مركبة نيو هورايزنز إنجازًا تاريخيًا بعدما أصبحت أول مسبار روبوتي يُحلّق فوق بلوتو، ومن ثم تابعت رحلتها لتحوم حول أحد أجسام حزام كايبر الذي سُمي أروكوث. أظهرت النتائج التي حصلنا عليها من مركبة نيو هورايزنز أن النجوم القريبة التي اعتدنا رؤيتها ثابتة، تظهر بشكل مُختلف عند النظر إليها من حافة المجموعة الشمسية.
يقع نجم وولف 359 القزم الأحمر في كوكبة الأسد، ويبعد عن الأرض نحو 7.9 سنة ضوئية، ويمكن رصده بواسطة تليسكوب بالقرب من المسار الذي تتبعه الشمس في السماء. إذا كنت من متابعي سلسلة ستار تريك التلفزيونية قد يكون الاسم مألوفًا لديك!
في الجانب المقابل يبعد نجم بروكسيما سنتوري -القزم الأحمر- مسافة 4.24 سنة ضوئية عن كوكب الأرض وهو جزء من رجل القنطور، وأقرب نجم إلى شمسنا.
يُعد وولف 359 وبروكسيما سنتوري ونجم السهم بالإضافة إلى مجموعة من الأقزام البنيّة -أجرام دون نجمية- أقرب النجوم إلى كوكب الأرض. وعندما التقطت نيو هورايزنز من بعد نحو 7 مليار كيلومتر من الأرض صورًا لهذه النجوم، ظهرت في مواقع مختلفة عما اعتدنا عليه، وهذا ما دفع فريق العمل إلى اغتنام الفرصة وتجربة قياس التخاطل أو قياس اختلاف المنظر، وهو قياس التغير الظاهري في موقع الشيء المنظور -وبخاصة الجرم السماوي- بسبب اختلاف مكان الرؤية.
اعتمد علماء الفلك قديمًا على الحركة المدارية للأرض لحساب بُعد النجوم القريبة، بسبب قطر الأرض الكبير نسبيّا (300 مليون كيلومتر) فإن جهة النظر تتغير بصورة كبيرة على مدار السنة، لكن مع وجود مسافات بعيدة مع أخذ مدار الأرض خطًا مرجعيًا، يُمكن للعلماء إجراء قياسات اختلاف المنظر بشكل موسّع. ومع وجود نيو هورايزنز على مسافة بعيدة جدًا من الأرض، قرر الفريق المُشرف على مهمات المركبة إجراء التجربة، ودَعَوا الناس والهواة للمشاركة في التقاط الصور من الأرض.
يقول تود لاور أحد أعضاء فريق البحث العلمي في نيو هورايزنز: «الفائدة الرئيسية بالنسبة لنا هي كيفية مُشاهدة الكون من الأرض، وكيفية مُشاهدته خارجها. ترصد مركبة نيو هورايزنز صورًا أكثر غرابة لأشكال النجوم عامًا بعد عام».
التقطت نيو هورايزنز في 22 و23 أبريل صورًا للنجمين بروكسيما سنتوري ووولف 359، ومن ثم دُمجت مع صور مُلتقطة في نفس التوقيت بمساعدة علماء الفلك في مراصد متعددة في أريزونا وأستراليا وغيرها. النتيجة كانت إنتاج قياس تخاطل جديد، أظهر صورًا ثلاثية الأبعاد للنجوم.
ويضيف لاور: «لقد انتظر علماء الفلك والهواة كثيرًا هذه التجربة، وكانوا شغوفين لإنجاز جديد في اكتشاف الفضاء، إذ جُمعت الكثير من الصور للنجمين وولف 359 وبروكسيما سنتوري في نفس الوقت الذي رُصدت به من قبل نيو هورايزنز من مكانها البعيد».
انضم جون سبينسر من معهد ساوث ويست للأبحاث إلى الدكتور لاور، وساهمت خبرته الكبيرة في التصوير في إنشاء الصور الثلاثية الأبعاد وقال سبينسر: «قدم الفريق المختص من وكالة ناسا للفضاء بعد تحليل عدد كبير من الصور للأجسام الفلكية، صورًا مذهلة ثلاثية الأبعاد لكل من بلوتو وأروكوث من حزام كايبر، لكن الصور الملتقطة لبروكسيما سنتوري ووولف 359 بواسطة مركبة نيو هورايزنز كسرت كل الصور النمطية المعروفة لدى محبي الفضاء والمجتمع العلمي بعد أكثر من 180 عامًا على استخدام التصوير ثلاثي الأبعاد».
الإنجاز الآخر المُضاف لهذا هو الآثار الإيجابية المُضافة للملاحة الفلكية، إذ اعتمد البحارة القدماء على مواقع النجوم لتحديد أماكنهم على الأرض. مثلًا، كان البحارة في بولنيزيا -مجموعة من الجزر في المحيط الهادئ- يوجهون قواربهم عن طريق الاستدلال بالنجوم للتنقل في جنوب المحيط الهادئ، بينما اعتمد البحارة العرب والأوروبيين القدماء على الأسطرلاب وآلة السدس لتحديد مسارهم.
قريبًا، سيصبح بالإمكان استخدام تقنيات نيو هورايزنز في الملاحة النجمية لتحديد المواقع في المجرة، إذ تعتمد المركبات الفضائية في الوقت الحالي على شبكة الفضاء العميقة التابعة لوكالة ناسا المتخصصة في تتبع الموجات الراديوية، وهي طريقة أكثر دقة بكثير لكن قد يُشكل استخدام النجوم -خاصةً النجوم النابضة- للتنقل في الفضاء طريقةً أفضل لاستكشاف مجرّتنا في المستقبل.
أشاد الباحث آلان ستيرن من مؤسسة ساوث ويست بالإنجازات التي حُققت مؤخرًا وقال: «قدمت نيو هورايزنز لنا نظرة جديدة لأفق جديد وغريب عما نشاهده من الأرض، ووفرّت لنا إجراء تجارب لم نكن نستطيع إجراءها سابقًا، إذ يمكننا الآن رصد النجوم القريبة وتغير أماكنها من نفس النقطة على الأرض».
في مطلع يونيو 2020، حققت بعثة نيو هورايزنز ما يزيد عن 5230 يومًا في الفضاء، أي ما يعادل 14 عامًا وأربعة أشهر، وتقدر المسافة التي قطعتها نحو 46 ضعف المسافة بين الشمس والأرض. حتى الآن، يوجد عدد قليل من المركبات التي سافرت لمسافات أكبر في الفضاء التي يعتقد أنها حاليا (أو لاحقًا) تسبح في الفضاء بين النجمي (مهمة بايونير 10 و11 ومهمة فوياغير 1 و2)، وستنضم إليهم لاحقًا مركبة نيو هورايزنز المُبشرة باستكشافات جديدة حول الكون والمجموعة الشمسية.
اقرأ أيضًا:
كيف ترسل مركبة نيو هورايزونز بياناتها من بلوتو إلينا؟
ترجمة: بيان علي عيزوقي