مع أن الطائرات كانت اختراعًا جديدًا نسبيًا، فإن السباق على التفوق الجوي بدأ خلال الحرب العالمية الأولى.
من اندلاع الحرب العالمية الأولى، كان عمر ظهور الطائرات أكثر من عقد بقليل، لكن سرعان ما أدرك أطراف الصراع مزايا إنشاء آلات حربية طائرة، وعملوا بلا هوادة طوال الحرب لتطوير مقاتلات وقاذفات أسرع وأكبر وأكثر فتكًا. لم يُعرف مفهوم «التفوق الجوي» قبل عام 1914، لكن الانتصار في الحرب جوًّا أصبح ضرورة تكتيكية بنهاية الحرب العظمى.
استُخدمت الطائرات في الحرب أولًا للاستطلاع:
كان الدور العسكري الرئيس للطائرات في الحرب العالمية الأولى هو الاستطلاع، وفقًا لجون غوتمان، مؤرخ الطيران العسكري. نشر الجيش مناطيد الهواء الساخن لأكثر من قرن للحصول على نظرة شاملة لساحة المعركة، حتى في أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، لكن الطائرات ثابتة الجناحين في الحرب العالمية الأولى كانت قادرة على التحليق بعمق خلف خطوط العدو لتتبع تحركات القوات وخريطة التضاريس.
يقول غوتمان: «كانت هذه الطائرات ذات مقعدين، أحدهما للطيار والآخر لمراقب في المقدمة، لتشغيل المنظار وتدوين الملاحظات».
لم تكن الرسوم المكتوبة بخط اليد والملاحظات السريعة دقيقة دائمًا، لكن ثبتت أهميتها في بعض العمليات المبكرة. عام 1914 مثلًا، نبهت طائرات الاستطلاع البريطانية قادة الحلفاء إلى القوات الألمانية التي تستعد لحصار باريس. تمكنت جيوش الحلفاء من التغلب على الألمان، ما أدى إلى معركة مارن، التي انتهت بنصر مبكر حاسم.
لم يمض وقت طويل قبل أن تُثبت الكاميرات على طائرات الاستطلاع التي يُمكِن بواسطتها التقاط عشرات الصور الجوية التي طُورت ودُمجت معًا لإنشاء خرائط بانورامية لميدان المعركة. أعطت تلك الصور الدقيقة المُكبرة القادة الميدانيين معلومات استخباراتية غير مسبوقة لتحديد مواقع المدفعية وللتخطيط لتحركات القوات.
الضباط الأبطال وأول اقتتال جوي:
في بداية الحرب العالمية الأولى، كانت طائرات الاستطلاع على درجة من الحداثة والغرابة لدرجة أن الطيارين الأعداء كانوا يلوحون لبعضهم في أثناء تقاطعهم مع الخطوط الأمامية. لكن لم يمض وقت طويل قبل أن تنجلي الأهمية الاستراتيجية لطائرات التجسس، ومعها الرغبة الملحة في إطلاق النار على طائرات العدو من السماء.
يقول غوتمان: «لم يكن هناك ما يُعرف بطائرة مقاتلة حتى عام 1915. لكن بعد معركة مارن، بدأ القادة العسكريون يأخذون فكرة القضاء على العدو على محمل الجد».
في المناوشات المبكرة، كانت طائرات الاستطلاع بطيئة الحركة، تطلق النار على بعضها بالمسدسات والبنادق. بدأت طواقم العمل الأرضية تركيب المدافع الرشاشة أمام موقع المراقب، لكن كان من الصعب تصويبها حول المروحة والأجنحة والدعامات.
كان الاختراع المبتكر هو «مُزامِن إطلاق النار»، الذي سمح لمدفع رشاش مُثبت في المقدمة بإطلاق وابل مستمر من الرصاص بأمان عبر شفرات المروحة الدوارة للطائرة، كل ما على الطيار فعله هو توجيه مقدمة الطائرة نحو العدو وإطلاق النار.
يعود الفضل إلى المهندس الهولندي أنتوني فوكر في تطوير أول مُزامِن إطلاق نار للجيش الألماني، رُكب على الطائرة «فوكر إي1» ذات المقعد الواحد عام 1915. كانت الطائرة خفيفة الوزن ماهرة للغاية وقاتلة لدرجة أن الحلفاء أطلقوا عليها اسم «بلاء فوكر».
للمرة الأولى، حلقت الطائرات في الجو لغرض واضح وهو القتال الجوي، وبدأ الفرنسيون يلقبون أي طيار يسقط خمس طائرات معادية أو أكثر «بطلًا».
هؤلاء الطيارون الأبطال لم تنقصهم المهارة والجرأة، إلا أن المنتصرين في معظم المعارك الجوية المبكرة كانوا الطيارين الذين يقودون الطائرات ذات التقنية الأفضل.
قال غوتمان: «فور ظهور الفائدة العملية للطائرات المقاتلة، كانت تلك البداية الحقيقية لسباق التسلح من أجل التفوق الجوي. أداء الطائرة وسهولة التعامل معها وكيفية تسليحها ومعدل صعودها، كلها عوامل في الصراع الدائم للتفوق على العدو».
صمم مهندسو الحلفاء الطائرات المُقاتلة ذات المقعد الواحد مثل «سوبويث كامل» بريطانية الصنع، التي سُميت كذلك بسبب الانتفاخ المُحدب في جسم الطائرة ليستوعب مدفعين رشاشين متزامنين مثبتين في الأمام.
عندما قُدمت سوبويث، طائرةً «ثلاثية» ذات ثلاثة أجنحة، رد الألمان بالطائرة «فوكر دي آر 1»، المفضلة لدى مانفريد فون ريشتهوفن، «البارون الأحمر المخيف»، الذي نُسبَت إليه رسميًا 80 عملية قتل، قبل أن تُسقط طائرته الحمراء الثلاثية أخيرًا عام 1918.
طائرات زيبلن تقصف أهدافًا مدنية:
عادة ما يُربَط القصف الجوي بتكتيكات الحرب الخاطفة لألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، لكن أول حملة قصف مُستهدفة وقعت عام 1915، عندما أرسلت ألمانيا طائرات زيبلن على ارتفاعات عالية في غارات ليلية على أهداف مدنية في لندن وإدنبرة.
حلقت طائرات زيبلن الممتلئة بالهيدروجين، التي استُخدمت في البداية للاستطلاع، على ارتفاع 11,000 قدم، وكانت تستطيع أن توقف محركاتها لتنفيذ هجمات مفاجئة. شجب الجمهور البريطاني «قتلة الأطفال» ونشر الجيش أخيرًا طائرات مقاتلة مسلحة برصاص حارق لإشعال النار في طائرات زيبلن الضخمة.
بدأت الطائرات القاذفة الأولى بوصفها طائرات استطلاع محملة بالكثير من الأسلحة، إذ كان عليها أن تقاتل في طريق العودة من وراء خطوط العدو. يقول غوتمان إن كبرى طائرات الاستطلاع، مثل العملاق الروسي ذي المحركات الأربع «إيليا موراميتس»، بدأ بحمل القنابل لإسقاطها على العدو «في إهانة أخيرة».
تعلم الألمان من الروس، وصنعوا قاذفتهم الضخمة «زيبلن ستاكن»، وهي طائرة ذات سطحين يبلغ طول جناحيها نحو 40 مترًا ويمكنها حمل ما يصل إلى تسعة من أفراد الطاقم. حلقت المقاتلة الألمانية المخيفة إلى لندن وباريس، وألقت قنابل تزن نحو طن، تضمن ذلك هجومًا مباشرًا على مستشفى تشيلسي الملكي بلندن.
دور كبير للطيران في الحرب العالمية الثانية:
بنهاية الحرب العالمية الأولى، كان من الواضح أن الطائرات هي سلاح المستقبل. بحلول عام 1918، كانت طائرات الحلفاء القاذفة تطير بالفعل في تشكيلات جماعية لمهاجمة مصانع الذخيرة الألمانية على طول الحدود الفرنسية، ونُشرت الطائرات المقاتلة الألمانية بقوة لشن معارك جوية ملحمية.
تهيأت الأجواء لاستخدام الطائرات المقاتلة في الحرب العالمية الثانية، إذ كان التفوق الجوي أحد العوامل الحاسمة للحلفاء في أوروبا والمحيط الهادئ.
اقرأ أيضًا:
أقوى سرقات البنوك على مر العصور
الملاعب في العصور القديمة وعمارتها المذهلة
ترجمة: صفا روضان
تدقيق: رغد أبو الراغب