بعد عقود من الجمود السياسي والحروب الأهلية والاغتيالات التي قادت إلى سقوط الجمهورية الرومانية، ازدهرت روما القديمة لقرنين من الزمن سادهما هدوء وازدهار نسبيان وعُرفَت هذه الفترة بباكس رومانا، وهي كلمة لاتينية معناها السلام الروماني.
يشكل صعود أغسطس إلى عرش روما بوصفه الإمبراطور الروماني الأول عام 27 قبل الميلاد أولى الإشارات على بدء هذه الحقبة التي تميزت باستقرار سياسي وحالة من الأمان استمرتا حتى وفاة ماركوس أوريليوس عام 108 قبل الميلاد.
رغم السلام النسبي وحالة الاستقرار، لم تخلُ الإمبراطورية الرومانية من حمامات الدماء خلال هذه الحقبة؛ إذ قتل الأباطرة الطغاة منافسيهم السياسيين في حين قمعت روما القديمة بوحشية الانتفاضات والثورات في مقاطعاتها كتلك التي في مملكة يهوذا وبريطانيا. تابعت روما القديمة غزواتها الإمبراطورية التي دعت زعيم كاليدونيا كالغاكوس لأن يقول مازحًا: «جلب الرومان ك الموت والدمار ثم دعوه سلامًا».
من جهة أخرى ينظر الكثير من الرومان إلى أن حقبة باكس رومانا كانت عصرًا ذهبيًا للفنون والأدب والتكنولوجيا في روما القديمة، وخلالها ازداد حجم الإمبراطورية وامتدت من بريطانيا العظمى إلى شمال أفريقيا حتى عاش ربع سكان العالم في ظل سيادتها.
إحياء أغسطس قوتي روما القديمة العسكرية والسياسية
بعد قضاء أغسطس على أعدائه في أعقاب اغتيال عمه يوليوس قيصر، أحيا قوة روما القديمة السياسية والعسكرية والاقتصادية خلال عهده الأوتوقراطي الذي دام خمسين عامًا. عمل أغسطس على ضمان تلقي الجيوش الرومانية رواتبها من الخزينة العامة وليس من جنرالاتها، وبذلك ضمن أن الجنود لن يقدموا ولاءهم بعد الآن لقادتهم على حساب روما. لاحقًا نشر أغسطس جيشه ليوسع الإمبراطورية إلى حدود يكون الدفاع عنها سهلًا.
يقول إدوارد جي. واتس، أستاذ التاريخ لدى جامعة كاليفورنيا، سان دييغو ومؤلف كتاب «الانحدار الأبدي لروما وسقوطها: تاريخ فكرة خطرة»: «لم يحل عصر باكس رومانا من العدم؛ فقد اتخذ أغسطس قرارات متأنية ومدروسة حول المناطق التي يجب لروما أن تتوسع إليها وتلك التي يجب أن تتوقف عندها»، ويكمل: «ما استطاع أغسطس فعله هو تعديل الخطط العسكرية الرومانية لأول مرة لتتلاءم مع الأهداف الاستراتيجية التي ستستغرق وقتا طبيعيا لتأتي أكلها».
دمج أغسطس الأراضي التي استولى عليها حديثًا في الإمبراطورية من خلال إلغاء مركزية الدولة ونقل السلطات من العاصمة إلى المقاطعات المحلية. تلك المقاطعات التي سلمت وقبلت بالخضوع لنظام روما الضريبي وسيطرتها العسكرية سُمِح لها بمتابعة ممارسة عاداتها المحلية ودياناتها التي لم تخالف أو تصطدم بالقانون الروماني وسُمِح للملوك بأن يبتوا ويحكموا في المسائل الدينية والمحلية. حصل أغسطس أيضًا على الدعم الإقليمي بالإصلاحات السياسية مثل تأسيس إدارة مدنية دائمة سحبت السلطات من أيدي النبلاء ومنحتها للبيروقراطيين، وإيجاد آلية للتحقيق مع الحكام الإقليميين الفاسدين -الذين يستغلون مناصبهم من أجل المكاسب الشخصية- ومعاقبتهم.
شجع الاستقرار السياسي على إقراض الأموال وشرع الباب أمام التجارة مع الأماكن القصية بالازدهار. نشطت التجارة البحرية عندما استأصلت البحرية الرومانية –بقيادة أغسطس- شأفة القراصنة من البحر الأبيض المتوسط. اشترى الرومان الحرير والمجوهرات الفاخرة من الشرق الأقصى ووجدوا أسواقًا لزجاجهم وسجاجيدهم في مناطق بعيدة كالصين والهند.
اندمج استثمار الموارد الإمبراطورية في مشاريع البنية التحتية الكبيرة التي كانت لتعجز الموارد المحلية عن تأمين متطلباتها مع المقاطعات وجلب المزيد من المزايا والفوائد الاقتصادية. في ظل حكم أغسطس، عبّدت روما القديمة طرقًا جديدة بطول وصل إلى 50 ألف ميل سهلت حركة القوات والمعلومات والبضائع، وتدفقت المياه في المدن الرومانية بفضل الترع والقنوات المائية، ما سمح لهذه المدن بالنمو والازدهار، ونمت التجارة بفضل الجسور والموانئ التي بناها تراجان جزءًا من برنامج الأشغال العامة العملاقة.
يقول واتس: «ساد لدى الأباطرة اعتقاد بأن وظيفتهم تكمن في تمهيد الطريق لتحقيق نمو الإمبراطورية اقتصاديًا خصوصًا في المقاطعات حيث الكوارث الطبيعية والنمو السكاني قد يستلزمان موارد إضافية».
ازدهار الفنون والتكنولوجيا خلال باكس رومانا
نما الأدب الروماني وانتعش في ظل عهد أغسطس الذي رعى الفنانين الذين مجدوا وعظموا من شأن الإمبراطورية في مؤلفاتهم وأعمالهم، فعلى سبيل المثال لا تخبرنا قصيدة فيرجيل الملحمية «الإنيادة» أسطورة المؤسس الخرافي لروما القديمة، بل تقارنه وتشابهه مع أغسطس وترسم مستقبلًا مشرقًا للإمبراطورية.
في ظل باكس رومانا خط الشعراء أمثال هوارس القصائد الشعرية الكلاسيكية وكتب ليفي مؤلفه «تاريخ روما».
في أثناء هذه الحقبة، استوعب الرومان المقاطعات بالاستعمار الثقافي الذي حاول إعادة تشكيل الشعوب المنهزمة على صورته وهيئته. أوجد تصدير العاصمة -روما القديمة- لبعض العادات والأنماط الرومانية -كتسريحات الشعر واللباس والأدب والمسرح- ثقافة شاعت بين النخبة المتعلمة التي شُجعَت على اتخاذ الجنسية الرومانية واختيارها والعمل حتى في مجلس الشيوخ الروماني. برز هذا الجانب بوضوح في الأقاليم الغربية من الإمبراطورية التي افتقدت الحضارات المدنية المتطورة التي نجدها في نظيرتها الشرقية.
يقول واتس: «كان هناك دعم ثابت ومتواصل لتشجيع الناس على استخدام الأسماء والسلوكيات الرومانية وبناء المستوطنات بأسلوب جديد يحمل في ثناياه أساليب البناء الرومانية».
بنى الأباطرة الرومان بنية تحتية حافظت على أسلوب الحياة الروماني. وقد تضمن ذلك بناء الميادين المخصصة لسباق العربات والساحات العامة والمسارح نصف الدائرية والحمامات التي كانت جزءًا لا يتجزأ من الحياة المدنية الرومانية. مكَّن تطور الخرسانة من خليط الرمل البركاني والجير عالي الجودة والأحجار الصغيرة من تشييد الأقواس والقباب المستديرة التي غدت رمزًا لقوة الإمبراطورية الرومانية.
بينما أعادت روما القديمة بناء المدن كمدينتي لندن وبيروت على هيئتها وصورتها، فإن برامج البناء والتحسين الضخمة -التي نفذها الأباطرة- حوَّلت العاصمة روما القديمة من مدينة رثة ومتهالكة على نهر التيبر إلى مدينة متلألئة خالدة. بُنيَت الصروح الرومانية كالكولوسيوم والبانثيون في أثناء حقبة باكس رومانا.
وسع أغسطس من حجم المحكمة الرومانية وأشرف على بناء أكثر من اثني عشر معبدًا جديدًا ومقرًا جديدًا لمجلس الشيوخ وقاعات عامة دفعته ليقول وهو على فراش الموت: «وجدت روما وهي مبنية من القرميد والآجر وأتركها الآن لكم مشيدة من الرخام».
انتهى عصر باكس رومانا بعد وفاة ماركوس أوريليوس الذي خالف العرف السائد حينها بتعيين ابنه كومودوس خليفة له. آل حكم كومودوس -الذي ساده التدهور والضعف- إلى نهايته عام 192 قبل الميلاد باغتياله، ما أطلق شرارة حرب أهلية استعرت ووضعت نهاية للعصر الذهبي للتاريخ الروماني.
اقرأ أيضًا:
أنظمة العمارة الكلاسيكية: الأعمدة الرومانية والإغريقية مثالًا
الأسباب التي أدت إلى سقوط الحضارة الرومانية
ترجمة: طارق العبد
تدقيق: نور عباس