بعض الأمور قد تجاوزت المعرفة البشرية الحالية عند الحديث عن حقيقة الكون. وبعضها أمور هينة كمشكلة قياس تجعل بعض النجوم تبدو أقرب أو أبعد مقارنةً بموقعها الحقيقي، تمكن علماء الفلك من معالجة هذه المشكلة بإحداث بعض التغييرات في طريقة قياس المساقات عبر الفضاء، وقد تكون الأمور جليلة: كخطأ -ومجموعة من الأخطاءــ في علم الأكوان، أو حتى في فهمنا لتاريخ الكون وتطوره، فقد يكون جل تاريخ الزمان والمكان الذي نعرفه مشوهًا، أيًّا كانت المشكلة، فذلك يجعل المراقبات المفتاحية للكون تتناقض فيما بينها، يظهر الكون وكأنه يتوسع بمعدلٍ معين باستخدام قياسٍ ما، وباستخدام قياسٍ آخر يبدو الكون وكأنه يتوسع بمعدلٍ مختلف، وكما تظهر ورقة بحث جديدة، أضحت تلك التناقضات أكبر فأكبر في السنوات الأخيرة رغم بلوغها درجات عالية من الدقة.
تقول كايتي ماك Katie Mack عالمة الأكوان النظرية من جامعة نورث كارولاينا في هذا الشأن: «نظن أنه إذا كان فهمنا لعلم الأكوان صحيحًا، يُفترض بكل القياسات أن تمنحنا نفس الإجابة».
نذكر هنا أشهر قياسين يعملان بشكلٍ مختلف عن بعضهما، إذ يعتمد الأول على الخلفية المكروية الكونية CMB،أي آثار الأشعة الميكروية من اللحظات الأولى بعد الانفجار العظيم، وقد بنى علماء الأكوان نماذج نظرية لتاريخ الكون بأسره بالاعتماد على تلك الخلفية، وهي نماذج يثقون بها وتحتاج إلى فيزياء جديدة لدحضها، وتعطي رقمًا دقيقًا لثابت هابل (H0) الذي يتحكم في سرعة توسع الكون حاليًا.
يستخدم القياس الثاني المستعرات العظمى (سوبرنوفا) والنجوم الوامضة في المجرات القريبة (النجوم متغيرة السطوع (Cepheidsبقياس بعد تلك المجرات عن مجرتنا وسرعة ابتعادها عنا، وقد حصل العلماء على ما يؤمنون بأنه قياس دقيق لثابت هابل، لكنه يختلف عن المُقتَرح من الطريقة السابقة.
تقول ماك في هذا الشأن لموقع Live Science: «إذا كنا نحصل على إجابات مختلفة فذلك يعني جهلنا بشيءٍ ما» وتضيف: «إذن هذا ليس مجرد عدم فهم لمعدل التوسع الحالي للكون، لكنه عدم فهم لكيفية تطور الكون أيضًا وكيفية تغير التوسع وما كان يفعله الزمكان طوال ذلك الوقت».
ويؤكد ذلك عالمُ الأكوان ويكانغ لين Weikang Lin -من جامعة نورث كارولاينا قائد ورقة البحث- قائلًا إن الفريق قرر جمع كل الطرق المختلفة (المُقيٌدة) لثابت هابل في مكان واحد لوضع تصور شامل للمشكلة.
هذا ما نعنيه بـ «التقييد»: نادرًا ما تعطي القياسات في الفيزياء أجوبة دقيقة، بل تضع تلك القياسات حدودًا لنطاق الأجوبة المحتملة، وبإمكانك تعلم الكثير حول الموضوع الذي تدرسه في نطاق تلك الحدود، على سبيل المثال، إذا نظرت خلال تلسكوب واحد سترى أن نقطة معينة من الضوء في الفضاء هي إما حمراء أو صفراء أو برتقالية، وقد تظهر في تلسكوب آخر أسطع من معظم الأضواء الأخرى في الفضاء لكنها أقل لمعانًا من الشمس، وقد يخبرك تلسكوب ثالث بأنها تسبح في السماء بسرعة الكواكب. لا يمكن لواحد من تلك التقييدات أن يزودك بالصورة الكبيرة بمفرده، لكن بجمعها معًا سيظهر لك أنك تنظر إلى كوكب المريخ.
نظر كل من لين وماك وكاتب مساعد ثالث، ليكيانغ هو Liqiang Hou الطالب من نفس الجامعة، إلى التقييدات عبر ثابتين، الأول هو ثابت هابل والثاني يسمى النسبة الكلية للكون، يشار إليه بالرمز Ωm ويخبرنا بنسبة الطاقة والمادة في الكون، هناك العديد من القياسات التي تقيد Ωm؛ لذلك من المفيد النظر إليها معًا، وينتج عنها ذلك الشكل الملون:
الشكل البيضوي الأرجواني الممتد المسمى WMAP هو نطاق النسبة الكلية وثابت هابل الممكن المستخدم اعتمادًا على دراسة سابقة هامة لناسا حول CMB، تعرف بمسبار التبان الميكروي لوليكينسون، العمود الأصفر المسمى CV SN -اختصارًا لكلمة Cepheid Calibrated Type-Ia Supernovae- يشير إلى قياسات النجوم والمستعرات العظمى التي لا تقيد النسبة الكلية للكون، لكنها تقيد ثابت هابل، أما العمود الأحمر المسمى SN P -اختصارًا لكلمة -Type-Ia Supernova Pantheon هو تقييد أساسي للنسبة الكلية للكون.
يمكنك رؤية تداخل حواف كل من WMAP و CV SN، خصوصًا خارج العمود الأحمر، هكذا كان التناقض منذ سنوات قليلة.
ظهر في السنوات الأخيرة قياس CMB جديد من قبل مجموعة يطلق عليها اسم تعاونية بلانك Planck Collaboration التي نشرت قاعدة بياناتها 2018 حيث وضعت تقييدات صارمة للغاية للنسبة الكلية ومعدل توسع الكون.
تحدث كُتاب الورقة العلمية عن صورتين مختلفتين لظهور الكون، بلانك و WMAP ـمع مجموعة من الطرق الأخرى محددة لثابت بلانك H0 وΩm المتوافقة تقريبًا- في قطعة الرسم البياني يظهر تشابه أجوبة تلك الطرق لسرعة توسع الكون ونسبة المادة المكونة له، فتظهر النقاط البيضاء الدائرية، ويمكنك رؤية مرور معظم أشكال الرسم البياني عبر تلك الدائرة.
لكن لا تتطابق القياسات الأكثر مباشرة المعتمدة على دراسة بُعد الأشياء عن بعضها وسرعة تحركها في كوننا المحلي، فقياس النجوم متغيرة السطوع الذي يظهر في أقصى يمين الشكل باللون الأصفر، لا يمر أبدًا على دائرة النقاط البيضاء كهامش خطئه الممثل باللون الأصفر البارد، وتلك مشكلة حقيقية.
تقول ريزا ويشلر Risa Wechsler عالمة الأكوان من جامعة ستانفورد في هذا الشأن: «زاد النشاط في هذا المجال في الأشهر الأخيرة، من الجميل أن ترى كل شيء ملخصًا فصياغة الأمر على شكل H0 و Ωm يوضح الأمور إذ يعتبر Ωm من الإعدادات الجوهرية للكون».
لكن رغم ذلك، أخبرت ويشلر موقع Live Science أنه من المهم عدم القفز لأي استنتاجات، نقتبس من كلامها: «يتحمس الناس لذلك؛ لأنه قد يعني وجود فيزياء جديدة، وذلك أمر مشوق للغاية».
من الوارد أن يكون نموذج CMB خاطئًا في موضع معين، أي أنه نوع من الأخطاء المنهجية في طريقة فهم الفيزياء للكون.
تقول ويشلر: «سيحب الجميع ذلك، فالفيزيائيون يحبون تحطيم نماذجهم»، وتضيف في موضع آخر: «لكن هذا النموذج يعمل جيدًا حتى الآن، لذلك يجب أن يكون الدليل قويًا للغاية لإقناعي».
تظهر الدراسة أنه من الصعب مطابقة قياس النجوم متغيرة السطوع من الكون المحلي مع كل القياسات الأخرى باستخدام فرع واحد فقط من الفيزياء حسب قول ماك.
تقول ماك أيضًا إنه من الممكن أن تكون حسابات النجوم متغيرة السطوع أو المستعرات العظمى خاطئة، وقد يكون علماء الفيزياء مخطئون في قياس المسافات في كوننا المحلي، ما قادهم إلى تقديرات خاطئة يصعب تخيلها.
قاس العديد من علماء الفيزياء الفلكية المسافات من الصفر، وخرجوا بنتائج متشابهة، وعرض كُتاب التقرير إمكانية وجودنا في جزءٍ غريب من الكون حيث توجد مجرات وجاذبية أقل، لذلك تتوسع المناطق المحيطة بنا أسرع مقارنة بالكون بأكمله.
حسب ماك، قد تكون الإجابة على التساؤلات قريبة للغاية، لكن سيتطلب الأمر سنوات أو عقودًا لإيجادها.
نقتبس من كلامها في هذا الشأن: «إنه إما شيء جديد في الكون أو أمر اخطأنا قياسه».
تراهن ويشلر بدورها على الخيار الثاني، أي وجود أمر غير صائب بخصوص أعمدة هوامش الأخطاء حول بعض القياسات المعنية، وبمجرد حل تلك الهوامش ستتلائم الصورة بشكلٍ أفضل.
يجب على القياسات القادمة توضيح التناقض، إما بشرحه أو بالتعمق فيه، فقد أصبح ضروريًا اقتراح مجال جديد في الفيزياء، ومن المتوقع تشغيل تلسكوب المسح الإجمالي الكبير The Large Synoptic Survey Telescope سنة 2020، إذ يتوقع رصده لمئات الملايين من المستعمرات العظمى، فتُثرى قواعد البيانات لعلماء الفيزياء الفلكية التي تستخدم في قياس المسافات بين المجرات، تقول ماك إن دراسات الأمواج الثقالية ستصبح جيدة بما يكفي لتقييد توسع الكون، ما يضيف المزيد من الدقة لعلم الأكوان، وقد يطور الفيزيائيون في نهاية المطاف أدوات حساسة بشكلٍ كافٍ لمراقبة توسع الأشياء عن بعضها في الوقت الحقيقي دون الحاجة لمراقبة ما حصل مسبقًا كما يحدث اليوم بسبب بعد الأشياء عنا.
ما يزال علماء الأكوان منتظرين وحائرين أمام عدم منطقية قياساتهم للكون عند وضعها مع بعضها البعض.
اقرأ أيضًا:
معدل توسع الكون يختلف تبعًا للمكان الذي تنظر إليه
إعداد : وليد سايس
تدقيق: سمية المهدي
مراجعة: تسنيم الطيبي