عند وفاةِ أحد أقاربِك، فهناك احتمالانِ لمصير جُثّتِه: الأول أن تُحرَق ولا يتبقّى منها سوى الرّماد، والثاني أنْ تُدفَنَ في مقبرةٍ في مكانٍ ما، داخل تابوتٍ خشبيّ في الغالب.
أمّا إذا وُجِدتَ في مكانٍ وزمانٍ مُختلفَين، ستتغيّرُ الاحتمالات، فقد تخلَّصَ البَشرُ من الجُثَثِ بطُرُقٍ مُختلفة على مدى العُصور، تختلِفُ من حضارةٍ لأُخرى، وبعضُها أرحمُ من الآخر.
ورُبّما قد نحتاجُ معرِفة بعضِ هذه الطُّرُق، بل وقد نستخدمها، لا نستطيعُ دفنَ الجثثَ للأبد في الأرض، نحتاج المساحة والأراضي.
في هذا السّياق، يعرِضُ (كيث إيجنر – Keith Eggener) تاريخَ مُمارساتِ البشَر في التخلّصِ من الجثث، ويوضِّحُ كيفَ تطوّرت طريقتُنا في دفنِ أبناء فصيلتنا، وكيف مِن المُمكِنِ أن تَتطوّر هذه الطرق.
مِنَ الصَّعبِ عادةً دِراسة موضوع حسّاس كدراسةِ مواضيع الموت والعزاء.
إذ أنَّ القيمةَ التي أعطاها الإنسانُ لنفسه تجعلُ دراسةَ بقايا أحبّائهم أمرًا صَعبًا، وتغييرُهُ أصعَب.
حتّى الآن، إنّ التخلُّصَ من بقايا الحيوانات ليس بالأمرِ الكبيرِ أو الهام بالنّسبةِ لفصيلتِها، ولم يكُن أيضًا هامًا بالنّسبةِ لأجدادِنا القدماء.
في وقتٍ ما من الزّمن القديم، غيّرَ الإنسانُ طريقةَ تعاملِه معَ الجثث، من إهمالها إلى التخلُّص منها بطريقةٍ هادفة، وبالطّبع، شكَّلَ هذا التغيُّر تحدّيًا صعبًا بالنسبةِ لأجدادِنا.
وُجِدَت أحافير لِعظامِ كائناتٍ تُشبهُ البشر “أشباه الإنسان” في حُفرةٍ في جبالِ بلدةِ أتابويركا الإسبانيّة، والتي اعتُبِرَت أقدَمَ دليلٍ على طُقوسِ جنازةٍ أُقيمَت مِن قِبَلِ الإنسان.
كَما وُجِدَت أدوات مُفيدة مدفونةٌ مَع الجُثَث، ما يدُلُّ على وُجودِ طُقوسٍ وإيمانٍ بالحياةِ بعد الموت.
بِشكلٍ مُعاكِس، صرّح بحثٌ حديث عن شكوكهِ في هذا التّفسير، مُقترحًا تفسيرًا يدخُلُ فيه موضوعُ أكلُ لُحومِ البشر، تارِكًا التساؤل عن بدايةِ طُقوسِ الدّفنِ مفتوحًا.
كَما وُجِدَ أيضًا، أنّ النياندرتال (أو الإنسان البدائيّ) اعتادَ التَّخلُّصَ مِنْ جُثثه قبلَ ما يُقارب عشراتِ الآلافِ مِنَ السّنين.
حيثُ وُجِدَت جثّةٌ مُتفحِّمة لامرأةٍ أُستراليّة بدائيّة قُربة بُحيرة مونجو، والتي تُمثّلُ أقدم دليلٍ على التخلُّصِ مِنَ الجثث في التاريخ البشريّ، أيّ قبلَ حوالي 40 ألف عام.
لذلك يُمكنُنا التّأكُّد من أنّ أجدادنا بَدؤوا التخلص من الجُثث على الأقلّ في ذاك الزمان.
حَتّى لو لَمْ نتمكّن من الإجابة على سؤال “متى؟” تتبقّى إجابة سؤال “لماذا؟”.
يُمكننا الاستنتاج أنّ طقوس الجنازةِ كانت أقدم من معرفة الإنسان للكتابة، لذلك يُمكننا توقُّعُ أسباب إقامتهم لهذه الطقوس.
يقترحُ إيجنر أنّ موضوع الجنازة والتخلُّصَ من الجثث قديمًا كان أقل تبجيلًا مِمّا هو عليه الآن، وبالإطّلاعِ على الأدلّة، فإنّ السُّلَّمَ الاجتماعيّ وقيمة الميّت الاجتماعيّة لعبت دورًا هامًا، حيثُ كانت تُرمى جثثُ الأفراد الأقل قيمةً في حُفرةٍ فحسب، أمّا ذوو القيمة فكانت تُقامُ لهُم مراسم أعلى قليلًا.
وفي مرحلةٍ أخرى، اعتَبَرَ الإنسان أنّ الدّفن هي الطّريقةُ المُثلى للتخلُّص من جثثه، فلا يتمّ أكلها أو تحلُّلها على المَلأ.
ومهما كان المُحفّزُ لدفن الجثث، فإنَّ الدّفن عُرِفَ مع بداية حضارة الاستيطان البشريّة قبل 10 آلاف عام.
بدأت الحضارات في ذاك الوقت بدفن جثث الموتى في سراديب مُخصّصة، أو في المقابر.
وللمعلومة، فإنّ كلمة (مَقبرة – Cemetery) أتت من كلمةٍ إغريقيةٍ قديمة معناها “حُجرةُ النّوم”، واليوم، نرى المقابر مُنتشرةً في التجمُّعات البشريّة، أماكن هادئة تدعو للتأمُل.
يَصِفُ إيجنر مقابر العُصور الوُسطى بأنّها كانت أماكن للبيع، وعرض البضاعة – عادةً ما تكون بضاعة المزارعين – أيّ أنّهُم استخدموا المقابر كمكانٍ تجاريّ.
وانتهت هذه النظرة السّابقة للمقابر تقريبًا في القرن التّاسع عشر، عندما نظّمت المُجتمعاتُ نفسها وخُصّصَ مكان لكلّ شيء، كالبيع والعرضِ والتّجارة، بحسب ما يوضِّحُ إيجنر.
مع كُلِّ هذا، لا زال يوجدُ بدائل للمقابر والجنائز والدّفن في بعض المُجتمعات الحاليّة، كبعض المجتمعات في التبت ومنغوليا، حيثُ تُترَكُ الجثث للطبيعة عمدًا لتستهلكها.
كما يوجد العديد من الأمثلة حول موضوع التّحنيط، ولا زالت هذه الأمثلة متواجدة في بعض الأماكن حول العالم، حيثُ يتمّ حفظ الجثّة بأسلوبٍ مُعيّن قبل حفظها بكرامتها.
قد تتغيَّرُ هذه النّظرات قريبًا، وذلكَ بسبب تطوّر المُجتمعات وتقدير أهمّية تدوير وإعادة استخدام المصادر.
أيّ قد يتغيّر موضوع وجود مقابر للبشر، ونتطوّر لإعادة التفكير في مصير الأموات في العالم.
وبأخذ طريقة تفكيرنا حول الموت بعين الاعتبار، ستبقى نظرتنا له روحانيّة كما سبقَ عهدها.
ويقترِحُ إيجنر عدّةَ مُقترحات من الجيّد أخذها على محمل الجدّ.
قد نَصل إلى مرحلةٍ نحوّل فيها جُثث أمواتنا إلى وُشوم، أو إلى شجر، فيتغيّرُ مصير جثثهم الأبديّ من التُّراب أو الحرق إلى شيءٍ آخر.
- ترجمة: محمد يامين
- تدقيق: آية فحماوي
- تحرير: تسنيم المنجّد
- المصدر