مع أنه يبدو أزليًا، يواصل العلماء البحث عن العمر الحقيقي للقمر.
على مدى آلاف السنين، ظل يحوم القمر إلى جانب الأرض، في مشهدٍ مألوفٍ في السماء الليلية، شاهدًا صامتًا على مجريات التاريخ البشري. وفي الأول من أغسطس عام 1971، سُطّر جزء من هذا التاريخ على سطح القمر نفسه، حينما عَثر رائدا الفضاء ديفيد سكوت وجيمس إيروين، في أثناء مهمة أبولو 15، على قطعة أثرية من القشرة القمرية القديمة، قد تحمل أدلة حاسمة بشأن نشأة القمر.
اتصل سكوت لاسلكيًا بغرفة التحكم في المهمة في هيوستن قائلاً: «خمنوا ماذا وجدنا للتو! خمنوا ماذا وجدنا للتو! أظن أننا وجدنا ما جئنا من أجله».
بدأ القمر قطعة من الأرض قبل 4.5 مليار سنة
انتهى الأمر بتلك العينة، التي أُطلق عليها لقب “صخرة التكوين”، إلى قلب النظريات السائدة آنذاك بشأن تكوّن القمر، التي افترضت أنه إما استولت عليه الأرض وإما وُلِد معها جنبًا إلى جنب، إذ كشفت دليلًا حاسمًا أشار إلى نظرية أصبحت اليوم مقبولة على نطاق واسع.
تُفيد فرضية الاصطدام العملاق بأنه منذ نحو 4.5 مليار سنة، اصطدم جسم بحجم المريخ، يُشار إليه غالبًا باسم “ثيا”، بكوكب الأرض في مراحله الأولى. ونتيجة هذا الاصطدام، قُذِفت كميات هائلة من الصخور المنصهرة في الفضاء، حيث تجمعت تدريجيًا تحت تأثير الجاذبية لتشكّل القمر الذي نعرفه اليوم.
كان الاصطدام عنيفًا إلى حد أحدث تصحيحًا لميلان محور الأرض، الذي كان أشد تطرفًا في السابق. وأسهم ذلك بدوره في تنظيم مناخ كوكبنا وإرساء أنماط المد والجزر الحرجة، ما مهد الطريق لظهور الحياة في نهاية المطاف.
يقول فيليب هيك، الباحث بجامعة شيكاغو ومتحف فيلد للتاريخ الطبيعي، الذي درس عينات قمرية قديمة: «أعاد القمر ضبط كل شيء على الأرض. وإذا كانت الحياة قد بدأت بالفعل في التطور، لكان هذا الاصطدام العملاق قد أعاد ضبطها بالكامل».
تفاوت التقديرات حول العمر الحقيقي للقمر
يرتبط تكوّن القمر ارتباطًا وثيقًا بالتاريخ المبكر للأرض، بما في ذلك تحديد متى ظهرت أولى أشكال الحياة. لكن لا يزال توقيت هذا الحدث المحوري مجهولًا، إذ لم تبقَ أي صخور من تلك المرحلة بسبب الطبيعة الجيولوجية النشطة للأرض التي تؤدي إلى إعادة تدوير سطحها باستمرار.
اكتُشِف أن معظم النيازك القمرية التي سقطت على الأرض تعود إلى نحو 4.35 مليار سنة. وأن جميع العينات القمرية التي جُلبت إلى الأرض في عصر أبولو، التي تزن نحو 900 رطل، يعود تاريخها إلى نفس العمر تقريبًا. ويُعتقد أنها تبلورت من محيط من الصهارة على القمر عقب الاصطدام العملاق.
في أواخر عام 2023، حدد فريق من العلماء، من بينهم فيليب هيك، عمر بلورات الزركون (وهي معادن شديدة المتانة) في أقدم عينة قمرية تعود إلى حقبة أبولو، ليجدوا أنها تعود إلى 4.51 مليار سنة، ما دفع بالعمر التقديري للقمر إلى الوراء 40 مليون سنة عن التقديرات السابقة. يقول هيك: «يُعد هذا الامتداد الزمني مجرد غمضة عين في تاريخ الأرض والقمر الممتد لـ 4.5 مليار سنة، لكنه في الوقت ذاته فارق زمني هائل بالنسبة لتطور الحياة، فمنذ 40 مليون سنة، لم يكن البشر قد وجدوا بعد على هذا الكوكب».
تشير الدراسات التي أجريت على الصخور القمرية إلى أن القمر تشكّل بعد نحو مئتي مليون سنة من نشأة النظام الشمسي. ومع ذلك، تتنبأ محاكاة تطور النظام الشمسي بأن القمر كان يجب أن يتكوّن قبل ذلك بعشرات الملايين من السنين، إذ بحلول مئتي مليون سنة كانت معظم المواد البدائية القادرة على الاصطدام بالأرض قد اندمجت بالفعل في تكوين الكواكب، ما يجعل وقوع تأثير اصطدام عملاق في تلك المرحلة أمرًا غير مرجح.
يقول ماكسيم موريس، الباحث في مختبر الأرصاد الجوية الديناميكية في فرنسا: «أن يكون الاصطدام الذي أدى إلى تكوّن القمر قد حدث بعد أكثر من 150 مليون سنة من بدء النظام الشمسي هو أمر غير محتمل على الإطلاق».
نظرية إعادة انصهار القمر
تدعم دراسة نُشرت في ديسمبر 2024 فرضية التكوّن المبكر للقمر، وتقدّم تفسيرًا للعمر الزمني الأصغر للصخور القمرية. إذ تسببت التفاعلات الجاذبية المبكرة مع الأرض في تسخين القمر لفترة وجيزة، ما أدى إلى انصهاره جزئيًا مجددًا، منتجًا بذلك صخورًا جديدة. وأدى هذا “التحديث البركاني” إلى إعادة ضبط أعمار النظائر للصخور القديمة، ما جعلها تبدو أصغر مما هي عليه في الواقع. وقد يفسر ذلك سبب تأريخ معظم عينات أبولو إلى ما قبل 4.35 مليار سنة.
يقول فرانسيس نيمو، المؤلف الرئيسي للدراسة وعالم الكواكب في جامعة كاليفورنيا، سانتا كروز: «قصتنا تقدم طريقة تتيح لكلا الفريقين أن يكونا على صواب». ويضيف نيمو أن حدثًا انصهاريًا كهذا كان ليؤدي إلى دفن جميع الأحواض الاصطدامية القديمة على القمر أو محوها، ما قد يفسر قلة عدد الأحواض القمرية المرصودة مقارنةً بما هو متوقع لجسم بهذا العمر.
الغموض المستمر حول القمر
يتمثل التحدي الرئيسي في تحديد العمر الحقيقي للقمر في أن جزءًا كبيرًا منه لا يزال غير مدروس بالكامل. ومن بين هذه المناطق جانبه البعيد العذري، الذي تأثّر بدرجة أقل بالعمليات الجيولوجية مقارنةً بالجانب المواجه للأرض، ما قد يساعد في حل التناقضات العالقة في تقديرات عمره.
قدّمت الصخور القمرية التي أعادها رواد فضاء أبولو إلى الأرض، بما في ذلك العينات التي فُتحت في عام 2019 احتفالًا بالذكرى الخمسين لهبوط أبولو 11 على سطح القمر رؤى قيّمة، لكنها تظل محدودة في استقصاء تاريخ القمر.
يشبّه ماكسيم موريس، الذي سبق أن حاول تحديد عمر القمر، هذه الجهود بمحاولة كشط الغبار تدريجيًا عن لوحة مغطاة به بالكامل. ويقول: «نأمل أن نحصل على الصورة الكاملة في يوم من الأيام».
اقرأ أيضًا:
استطاع العلماء أخيرًا تحديد مم يتكون باطن القمر
رواد الفضاء سيرتدون بذلات (برادا) في رحلتهم القادمة إلى القمر!
ترجمة: أميمة الهلو
تدقيق: مؤمن محمد حلمي
مراجعة: باسل حميدي