كانت معركة ستالينغراد معركةً ضاريةً دارت بين القوات الروسية من جهة والقوات الألمانية النازية وحلفائها من دول المحور من جهة أخرى، وقد حدثت خلال الحرب العالمية الثانية واشتُهرت بوصفها واحدةً من أكبر المعارك العسكرية وأطولها وأكثرها دموية في العصر الحديث.
بدأت المعركة في آب 1942 واستمرت حتى نهاية شباط 1943 وشارك فيها أكثر من مليوني محارب في عمليات قتالية ملحمية وسقط على إثرها نحو مليوني شخص بين قتيل وجريح بينهم عشرات آلاف المدنيين الروس.
دارت معركة ستالينغراد في إحدى أهم المدن الصناعية الروسية ونتج عنها -في النهاية- تفوق قوات الحلفاء في الحرب على خصومهم من دول المحور.
التمهيد للمعركة
في منتصف الحرب العالمية الثانية، احتلت القوات الألمانية معظم ما يُسمّى اليوم أوكرانيا وبيلاروسيا في ربيع 1942، فقرر الجيش الألماني مهاجمة أراضي جنوب روسيا في صيف تلك السنة.
نجحت القوات الروسية بقيادة الرئيس الحازم جوزيف ستالين حقًا في صدّ الهجوم الألماني على غرب البلاد، ذاك الهجوم الذي كان هدفه النهائي احتلال العاصمة موسكو في شتاء 1941-1942، لكن الجيش الأحمر تكبد خسائر فادحة في صد الهجوم من ناحيتي الرجال والعتاد معًا.
توقع ستالين وجنرالاته -ومن ضمنهم قائد الاتحاد السوفييتي اللاحق نيكيتا خروتشوف- هجومًا نازيًا آخر يستهدف موسكو، لكن كانت لهتلر وجيشه نوايا أخرى، إذ خططوا لمهاجمة مدينة ستالينغراد لأهميتها الصناعية لروسيا، إذ كانت المدينة تنتج العديد من البضائع المهمة من بينها المدفعية التي يستخدمها الجيش الروسي، إضافةً إلى أهمية نهر الفولغا -المار في المدينة- في النقل إذ يُعدّ شريانًا حيويًا يربط غرب البلاد بأقاصي شرقها، ناهيك عن رغبة هتلر في احتلال ستالينغراد بقصد الدعاية إذ إنه رأى أن اجتياح المدينة المعروفة باسم القائد السوفييتي سيخدم ألمانيا دعائيًا في حربها، ولأسباب مشابهة شعر الروس بضرورة حماية ستالينغراد.
أعلن هتلر أن كل ذكور المدينة سيُقتلون وأن نساءها سيُهجّرن حال سقوط المدينة على يد جيشه، ما جهز المسرح لمعركة صعبة ودموية، وقد أمر ستالين كل من يقدر على حمل السلاح بحمله دفاعًا عن المدينة، وذلك قبل بدء هجوم الجيش الألماني السادس في 23 آب 1942 م.
بداية المعركة
استطاعت القوات الروسية -في البداية- تأخير تقدم الجيش الألماني بسلسلة من الاشتباكات العنيفة شمال ستالينغراد وفقدت في هذه العمليات نحو مئتي ألف مقاتل كانوا ثمن صد الجنود الألمان، ولأن الروس فهموا خطط هتلر، شحنوا كثيرًا من مخازن الحبوب والماشية إلى خارج ستالينغراد، لكنهم لم يُخلوا المدينة من سكانها الذين تجاوز عددهم 400 ألف نسمة لأن القيادة رأت في بقائهم شحذًا لهمم المقاتلين.
بدأ قصف طائرات سلاح الجو الألماني (اللفتوافا) ما منع عبور الشحنات عبر نهر الفولغا، وأغرقت الطائرات في أثناء ذلك عددًا من السفن الروسية التجارية المبحرة فيه، واستمر القصف منذ أواخر آب حتى نهاية الهجوم بعشرات الضربات التي نفذتها الطائرات الألمانية.
لا يُعرف عدد ضحايا المدنيين لكنه لا يقل عن عشرات آلاف القتلى إضافة إلى عشرات آلاف الأسرى الذين أُرغِموا على الكدح في معسكرات العمل في ألمانيا.
سيطرت الطائرات الألمانية على سماء ستالينغراد بحلول أيلول وأصاب اليأس الروس حتى طُلِب من العاملين في المدينة -في غير مجال صناعة السلاح- المشاركة في المعركة، دون أن توَفَّر لهم الأسلحة النارية أحيانًا، أما النساء فكان عليهن حفر الخنادق في الخطوط الأمامية، ومع ذلك استمر الروس بمعاناة الخسائر الفادحة، فلما حل خريف سنة 1942 أمست ستالينغراد أطلالًا.
«لا تخطوا إلى الخلف خطوة!»
كانت خسائر الروس كبيرةً وطائرات الألمان مستمرة في القصف، لكن ستالين أمر قواته بعدم الانسحاب من المدينة، إذ أصدر أمرًا شهيرًا رقمه 227 ينص على أن: «ولا خطوة إلى الخلف!» أما الذين استسلموا تعرّضوا لمحاكمات عسكرية أفضت إلى الإعدام أحيانًا.
بدأ ضباط ستالين بإرسال التعزيزات إلى المدينة وما حولها بعد انهيار عدد القوات فيها لما لا يتجاوز 20 ألف جندي معهم أقل من مئة دبابة. واستعر القتال في شوارع ستالينغراد واستخدم الطرفان قناصين توضّعوا على أسطح أبنية المدينة.
نظم الضابطان الروسيان غيورغي جوكوف وألكسندر فاسيليفسكي قواتٍ روسيةً في الجبال الواقعة شمال المدينة وغربها، ومن هناك أطلقا هجومًا مضادًا اشتهر باسم «عملية أورانوس» تكبدا فيه خسائر عظيمة لكنهما نجحا في إقامة حلقة دفاعية حول المدينة بحلول أواخر تشرين الثاني 1942، وحجزت هذه الحلقة نحو 300 ألف جندي ينتمون إلى الجيش السادس قادمين من ألمانيا وباقي دول المحور، واستغلت آلة الدعاية الروسية هذه العملية حين أصدرت فيلمًا بعد الحرب بعنوان: «معركة ستالينغراد».
ضُيّق على الألمان فلم يعودوا قادرين على الحصول على الإمدادات بِحُريّة، فبدأ الجوع يصيب القوات الألمانية المُحاصرة تدريجيًا، واستغل الروس ضعف الألمان في أثناء شهور الشتاء قارس البرودة التي تلت ذلك.
مجيء الشتاء الروسي
عرف الضباط السوفييت -حالما حلّ شتاء روسيا القاسي- أن الألمان سيكونون في موضع ضعف يحاربون في ظروف لم يعتادوا عليها، فبدأ السوفييت بتعزيز مواقعهم حول ستالينغراد ويخنقون الألمان مانعين عنهم الإمدادات الضرورية ومحيطين بهم -بصورة أساسية- كالعقدة حول عنق المشنوق.
ضاقت الأحوال بقوات المحور -الألمان والإيطاليين أساسًا- بفضل نجاحات القوات الروسية القريبة، ومن ضمنها النصر في مدينة روستوف الواقعة على نهر الدون التي تبعد نحو 400 كيلومتر عن ستالينغراد، وبدأ الروس بكسر خطوط القوات المعادية -الإيطالية غالبًا- غرب المدينة في عملية «زحل الصغير».
يئس الضباط الألمان -بحلول هذا الوقت- من كسر الحصار المضروب حول قواتهم في ستالينغراد لكن هتلر كان رافضًا فكرة الاستسلام مع علمه بجوع رجاله ونفاد ذخيرتهم.
نهاية المعركة
بحلول شباط 1943 حررت القوات الروسية مدينة ستالينغراد وأسرت نحو مئة ألف جندي ألماني، مع أن أحداث المقاومة المتفرقة استمرت حتى بدايات آذار، ومات معظم الأسرى في مخيمات الاحتجاز الروسية بفعل المرض حينًا والجوع حينًا آخر.
كانت خسارة ستالينغراد أول فشل اعترف به هتلر في الحرب، إذ إنها وضعت هتلر وقوات المحور في موضع الدفاع مثلما عززت ثقة الروس بأنفسهم، واستمرت روسيا في خوض معارك الحرب العالمية الثانية على الجبهة الشرقية.
يعتقد كثير من المؤرخين أن معركة ستالينغراد مثّلت نقطة تحول كبرى في الصراع إذ كانت بداية طريق النصر بالنسبة إلى قوات الحلفاء: روسيا وبريطانيا وفرنسا وأمريكا.
اجتمع الروس في شباط 2018 في مدينة فولغوغراد للاحتفال بالذكرى الخامسة والسبعين لنهاية المعركة التي دمرت مدينتهم تلك، وفولغوغراد هو الاسم الحالي لمدينة ستالينغراد التي جرت فيها تلك المعركة الحاسمة.
اقرأ أيضًا:
اختراعات من الحرب العالمية الثانية غيرت العالم
وأخيرًا قطع الشك باليقين: هكذا مات هتلر
ترجمة: الحسين الطاهر
تدقيق: علي البيش
مراجعة: آية فحماوي