يعود أصل الهكسوس إلى الشعوب السامية التي هاجرت إلى مصر عام 1782 ق.م، واستقرت في مدينة أفاريس على الواجه البحرية، لتكون بداية ما يعرف بعصر الفترة المتوسطة الثانية في التاريخ المصري (1570 – 1782 ق.م).
يُطلق عليهم اسم (هيكوـ خسوت Heqau-khasut) أي «حكام الأراضي الأجنبية»، بينما أطلق عليهم اليونانيون اسم «الهكسوس»، مما قد يوحي لبعض العلماء بأنهم منحدرين من سلالة ملكية نبيلة.
طردهم الغزاة من منازلهم، فوجدوا في مدينة أفاريس الساحلية ملاذًا لهم. وتمكنوا هناك من إنشاء قاعدة قوية لهم في أثناء تراجع حكم الأسرة الثالثة عشر في المملكة الوسطى (2040-1782 ق.م).
يُرجح أنهم كانوا تجارًا رُحِّب بهم في البداية في أفاريس، ثم ازدهروا وازدهرت تجارتهم، فأرسلوا خطابًا لدعوة أصدقائهم وجيرانهم للانضمام إليهم، مما أدى إلى توسعهم وتزايد عددهم كثيرًا، حتى تمكنوا أخيرًا من بسط سيطرتهم السياسية ثم العسكرية.
اندمج الهكسوس مع الثقافة المصرية، واعتمدوا الزي المصري، وتبنوا معتقداتهم الدينية. ادعى الكتبة المصريون اللاحقون أن الهكسوس من أصول عبرية مستمدين معلوماتهم من الكاتب المصري «مانيتو»، الذي فقدت أعماله فيما بعد. ولا وجود لأي دليل على صحة ادعاءاتهم، ولكنهم تحدثوا وكتبوا بلغة سامية فقط.
توافد الهكسوس:
كان الأجانب يتوافدون بانتظام إلى مصر -على الرغم من عزلتها لفترة طويلة من تاريخها- للعمل أو بوصفهم مرتزقة، أو يُؤخَذون بوصفهم عبيدًا إلى مناجم الذهب.
بدأت الحملات العسكرية للجيش المصري في وقت مبكر واستمرت حتى فترة المملكة الجديدة، وكانت الحملات غالبًا ذات طابع محلي، واقتصرت على الأماكن المجاورة فقط غير البعيدة كثيرًا عن البلاد. لذلك، عندما وصل الهكسوس البلاد أول مرة، لم يشكل الأمر تهديدًا كبيرًا على الأمن، لأن التهديد الفعلي من خارج البلاد كان ببساطة غير وارد. وبحلول عام 1782 ق.م، تطورت الحضارة المصرية واستمر ذلك لأكثر من ألفي عام، واكتسبت قوة استراتيجية.
عندما بدأت فترة المملكة المتوسطة، كانت مصر دولة قوية وموحدة وكان الملك أمنمحات الأول (1962-1991 ق.م)، الذي أسس الأسرة الثانية عشر، حاكمًا قويًا ومؤثرًا، ويعتقد أنه في محاولة منه لزيادة توحيد البلاد، نقل العاصمة من طيبة إلى أرض وسطى بين الصعيد والجانب البحري بالقرب من «ليشت»، وأطلق على مدينته الجديدة اسم (إيتي تاوي – Itj-tawi)، أي «أمنمحات هو من يستحوذ على الأراضي». كما أسس بلدة «هوتوريت» على الجانب البحري بوصفها ميناءً تجاريًا. هوتواريت والمعروفة باسم أفاريس (الاسم اليوناني) كانت صلة وصل إلى البحر الأبيض المتوسط، وتصل طرقها البرية إلى سورية وفلسطين.
يعد الكثيرون الأسرة الثانية عشر ذروة الحضارة المصرية، وقد أعطت المملكة المتوسطة صيتها باعتبارها «العصر الكلاسيكي للحضارة المصرية». مع ذلك، لم تكن الأسرة الثالثة عشر بقوة سالفتها، واتخذت عددًا من القرارات غير الحكيمة، مما أضعف نفوذها. أول هذه الأخطاء هو نقل العاصمة من «إيتي تاوي» إلى «طيبة» في الجزء العلوي من مصر. ترك هذا القرار الجزء السفلي مفتوحًا بنحو أساسي على أي قوة شعرت أن لديها الدعم الكافي للسيطرة عليها.
اجتذبت مدينة أفاريس الساحلية، التي توسعت بسرعة نتيجة التجارة، العديد من الأشخاص ممن عرفوا لدى المصريين باسم «الآسيويين»، ومع ازدهارها، نما عدد سكانها وسيطر الهكسوس على شرق الدلتا تجاريًا، ثم انتقلوا شمالًا لتوقيع المعاهدات وإبرام العقود مع العديد من حكام المناطق الأخرى على الجانب البحري، واستولوا على مساحات واسعة من الأراضي، وتمكنوا من تطبيق سلطتهم السياسية.
الهكسوس في مصر:
على عكس ما ادعاه كتبة المملكة الجديدة، «مانيثو» و«يوسيفوس» ولاحقًا مؤرخو القرن العشرين الميلادي، لم تكن الفترة المتوسطة الثانية في مصر منبعًا للفوضى والارتباك، ولم يغزُ الهكسوس مصر كلها، بل اقتصر نفوذهم على أقصى الجنوب حتى «أبيدوس» فقط، وعلى الجانب البحري، كانت هناك العديد من المدن -مثل مدينة «شوا»- التي حافظت على حكمها الذاتي.
تعطي رواية «يوسيفوس» -التي اعتمدت إلى حد كبير على رواية «مانيتو» (الذي اقتبس منه فيما بعد كتبة المملكة الجديدة)- انطباعًا أن الهكسوس دخلوا مصر على عرباتهم الحربية، ونشروا الخراب في الأرض، وأطاحوا بالحكومة الشرعية. ولكن مرة أخرى، لا يوجد دليل على ذلك؛ توضح عالمة المصريات والمؤرخة مارجريت بونسون: دخل الهكسوس إلى مصر، ولكنهم لم يظهروا هناك فجأة، بما أسماه مانيتو «انفجار»، بل دخلوا منطقة النيل تدريجيًا على مدى سلسلة من العقود حتى أدرك المصريون الخطر الذي يشكلونه في وسطهم. صادف معظم الآسيويين حدود مصر قرونًا عدة، دون إثارة الكثير من الضجة.
فور استقرارهم في أفاريس، وضع الهكسوس المصريين في مناصب مهمة، وتبنوا عاداتهم ولباسهم، ودمجوا عبادة الآلهة المصرية مع معتقداتهم وطقوسهم الخاصة. كانت آلهتهم الرئيسية هي «بعل» و«عنات»، وكلاهما من أصل «فينيقي/كنعاني/سوري».
أسس الحكام الهكسوس الأسرة الخامسة عشر في مصر، ولكن بعد طردهم، محا «الغزاة الطيبيون» جميع آثارهم في مصر، فلم يُعرف سوى عدد قليل من ملوك الهكسوس بالاسم من بين أنقاض النقوش والكتابات الأخرى الموجودة في أفاريس وخارجها، وهم: «ساكر هار» و«خيان وخامودي» وأشهرهم كان «أبيبي».
عُرف أبيبي أيضًا باسم «أبوفيس» ومن المثير للاهتمام أن له اسمًا مصريًا مرتبطًا بالثعبان العظيم «أبوفيس/أبيب»، عدو إله الشمس رع. من المحتمل أن الكتبة اللاحقين أطلقوا عليه هذا الاسم لربطه بالخطر والظلام، إذ زعموا أنه قد بدأ الصراع بين أفاريس وطيبة.
ازدهرت التجارة خلال فترة حكم الهكسوس وعقد حكام مدن وبلدات الجانب البحري المحليون معاهدات معهم، وتمتعوا بامتيازات تجارية مربحة، حتى طيبة، التي صُورت باستمرار على أنها «آخر معاقل» الثقافة المصرية، وأنها وقفت بمفردها ضد الغزاة، كانت لها علاقة ودية ومربحة معهم كما أنهم أشادوا بهم.
أفاريس وطيبة والحرب:
في الوقت نفسه الذي كان الهكسوس يوسعون سلطتهم في شمال مصر، كان النوبيون يفعلون ذلك في الجنوب، إذ لم تولي الأسرة الثالثة عشر في المملكة الوسطى الاهتمام بحدودها الجنوبية، كما فعلوا مع مصر السفلية.
ظلت طيبة عاصمة الصعيد، وانقسم الحكم بين الهكسوس في الشمال والنوبيين في الجنوب، بدلًا من توحيد الحكم بالبلاد بالكامل. ومع ذلك، كانت طيبة وأفاريس على ما يرام. كان أهل طيبة أحرارًا في التجارة إلى الشمال، وأبحر الهكسوس على سفنهم عبر طيبة لشراء وبيع النوبيين في الجنوب واستمرت التجارة بين العاصمة النوبية «كوش»، والمركز المصري في طيبة، و«أفاريس» بالتساوي تمامًا إلى أن أهان ملك الهكسوس، عن قصد أو عن غير قصد، ملك طيبة.
وفقًا لما رواه مانيثو، أرسل الملك الهكسوسي «أبيبي» رسالة إلى ملك طيبة «سيكينرا تاو» (المعروف أيضًا باسم تاو)، رسالة تتضمن الكلام التالي: «تخلص من بركة فرس النهر الموجودة في شرق المدينة، لأنها تمنعني من النوم ليلًا نهارًا». كانت الرسالة على الأرجح تتعلق بممارسة ملك طيبة لصيد فرس النهر، التي تسيء للهكسوس الذين قدسوا فرس النهر في شعائرهم الدينية. بدلًا من امتثال تاو ملك طيبة لطلبه، عَد ذلك تحديًا لسلطته وسار بجيشه إلى أفاريس. وتشير مومياؤه أنه هُزِم في هذه المعركة، كما تشير هذه الحادثة وما تلاها إلى هزيمة أهل طيبة في هذا الاشتباك.
تبنى نجل تاو «كاموس» القضية، ويشير أحد النقوش أنه اشتكى بمرارة وأنه سئم دفع الضرائب للهكسوس واضطراره للتعامل مع الأجانب في شمال و جنوب أرضه. فشن هجومًا ضخمًا على الهكسوس ودمر أفاريس، ووفقًا لروايته الخاصة ادعى أن هجومه كان مباغتًا ومرعبًا لدرجة أنه جعل نساء الهكسوس عقيمات. وبعد المذبحة، عاث بالأرض خرابًا.
على الرغم من ذلك يبدو هذا التوصيف مبالغًا فيه، خاصةً أن الهكسوس احتفظوا بمصر السفلية في السنوات الثلاث التي أعقبت هجوم كاموس، وبقيت أفاريس معقلًا لهم. ثم خلفه شقيقه أحمس الأول، وتصف النقوش كيف طرد الهكسوس من مصر، ودمر مدينتهم أفاريس. وترد هذه الأحداث أيضًا في نقوش على مقبرة رجل آخر يدعى «أحمس ابن إبانة» جندي خدم تحت حكم الملك أحمس، يصف فيها تدمير أفاريس وفرار ما بقي على قيد الحياة من الهكسوس إلى «شاروهين» الواقعة في فلسطين. ثم حاصر الملك أحمس هذه المدينة مدة ست سنوات حتى فر الهكسوس مرة أخرى، هذه المرة إلى سوريا، و لم يدوّن ما حصل لهم بعد ذلك.
إرث الهكسوس في مصر:
لم يؤسس أحمس الأول الأسرة الثامنة عشرة فحسب، بل وبدأ فترة المملكة المصرية الجديدة «عصر الإمبراطورية المصرية». أراد أحمس الأول ومن تبعوه التأكد من عدم تمكن أي أجنبي من أخذ السلطة على أرضهم مرة أخرى كما فعل الهكسوس، فشكلوا جيشًا مصريًا قويًا، وبدأ عصر الفراعنة من أحمس الأول واستمر خلال فترة المملكة الجديدة، وصنعوا منطقة عازلة حول مصر، متوسعين ومحتلين المزيد من الأراضي حولها.
سعى كتبة المملكة الجديدة لتشويه سمعة الهكسوس وتبرير حروب الغزو هذه وإنشاء نسخة جديدة محرفة من التاريخ، مصورينهم على أنهم غزاة دمروا معابد الآلهة، وذبحوا الأبرياء وهدموا المدن بشهوة بربرية للغزو. ولكن في حقيقة الأمر، لولا الهكسوس، لما امتلك الجيش المصري الجديد ميزتين ساعدتهما على تأسيس إمبراطوريتهم: القوس المركب، والعربة التي تجرها الخيول.
صوّر الفن المصري المملكة الجديدة والفراعنة الملوك أمثال «توت عنخ آمون» أو «رمسيس الثاني»، في رحلات صيد على عربتهم مع كلابهم أو عند ذهابهم إلى الحرب، وبما أن فترة المملكة الجديدة هي الفترة الأكثر شيوعًا لدى الناس في الوقت الحاضر، نُسب الفضل بابتكار القوس المركب، الذي حل محل القوس المصري الطويل الذي كان قيد الاستخدام لقرون عدة، للفراعنة بدلًا من الهكسوس.
كما ابتكر الهكسوس الخنجر البرونزي والسيف القصير والكثير من الابتكارات الأخرى. وأدخلوا طرائق جديدة لري المحاصيل في مصر والمشغولات المعدنية المصنوعة من البرونز. وأدى تحسينهم لعجلة الخزف إلى ارتفاع جودة السيراميك وجعله أكثر متانةً. وجلبوا أيضًا إلى مصر النول الرأسي، الذي أنتج كتانًا أكثر جودة، وتقنيات جديدة لزراعة الفاكهة والخضروات.
غيرت ابتكارات الهكسوس الثقافة المصرية ولكنها حافظت أيضًا على الماضي. تحت حكم أبيبي، نُسخت مخطوطات البردي القديمة، وخزنت بعناية، وكان الكثير منها هي النسخ الوحيدة الموجودة التي نجت.
إضافةً إلى أنهم وحدوا مصر كما لم يحدث من قبل، وكانت القومية المصرية في أعلى مستوياتها على الإطلاق خلال معظم فترة المملكة الجديدة. وبصرف النظر عن الأسلحة الجديدة المحسنة، لم يكن من الممكن أن تزدهر الإمبراطورية المصرية دون الاعتقاد بأن الغزو ضروري لحماية شعب مصر من مأساة أخرى قد تكون أكثر فظاعة من غزو الهكسوس.
اقرأ أيضًا:
ترجمة: لُجين الحفار
تدقيق: نور عباس
مراجعة: حسين جرود