تتدفق خلال أجسامنا مليارات الجسيمات الشبحية كل ثانية واسمها النيوترينوات، ويسعى علماء الفيزياء إلى قياس كتلتها بدقة، ولقد جعلتهم تجربة جديدة أقرب إلى تحقيق ذلك بخطوة.

مع أنها تُعد خطوة صغيرة فأهميتها كبيرة، لأن قياس الكتلة الدقيق سيكون إنجازًا قد يُحدث ثغرة كبيرة في النموذج القياسي المتعارف عليه لفيزياء الجسيمات، إذ سيتمكن الفيزيائيون من التعمق أكثر في فهم تطور الكون، وربما على الأرجح العثور على قوانين فيزيائية جديدة غير مكتشفة تختبئ خلف النموذج القياسي للفيزياء.

لكن قياس كتلة النيوترينو ليس بالأمر السهل أبدًا، فلقد استحقت تلك الجسيمات لقب الجسيم الشبح عن جدارة، فهي تفتقر الى الشحنة الكهربائية وبالكاد تمتلك أي كتلة، ما يعني أنها قد تتدفق خلال المادة العادية بسرعة قريبة من سرعة الضوء.

لذلك وللوصول إلى أقرب حد لقياس كتلة النيوترينو، كان على الباحثين ابتكار نهج مختلف بأدوات ذات حساسية غير مسبوقة، وقد أبلغوا عن النتائج التي توصلوا إليها بنشر ورقة بحثية في 19 أبريل 2024 في مجلة Nature Physics.

في بيان لكريستوف شفايجر (طالب الدكتوراه في معهد ماكس بلانك للفيزياء النووية في ألمانيا والمؤلف الرئيسي للمقالة البحثية) وصف صعوبة الأمر بقوله: «تخيل طائرة إيرباص مُحمّلة بحمولتها القصوى، ونحتاج إلى حساسية كافية لقياس هبوط قطرة مياه واحدة عليها».

في كل ثانية يمر حوالي 100 مليار نيوترينو عبر كل سنتيمتر مربع من جسمك. هذه الجسيمات الدقيقة موجودة في كل مكان، فهي تُنتَج في النيران النووية للنجوم، وفي انفجارات السوبرنوفا الهائلة، وبواسطة الأشعة الكونية والتحلل الإشعاعي، وفي مسرعات الجسيمات والمفاعلات النووية على الأرض.

اكتُشِفت النيوترينوات أول مرة وهي تخرج من مفاعل نووي في عام 1956، وتأتي في الواقع في المرتبة الثانية بعد الفوتونات (جسيمات الضوء) بوصفها الجسيمات دون الذرية الأكثر وفرة في الكون.

افترض الفيزيائيون في الماضي أن النيوترينوات (كما الفوتونات) ليس لها أي كتلة ساكنة، وهذا من شأنه أن يجعل النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات متوافقًا مع هذا الافتراض ومقبولًا. ولكن اكتشاف النيوترينوات القادمة من الشمس تحدى هذا الافتراض، تلك التي قد تتبدل عشوائيًا بين الهيئات الثلاث للنيوترينوات (الإلكترون النيوترينو، والميون النيوترينو والتاو النيوترينو) في إشارة الجسيمات المختلفة التي يتفاعل معها النيوترينوات.

فهذا التبديل ممكن فقط إذا كان لدى النيوترينوات بعض الكتلة، ما دفع الفيزيائيين لتصميم عدة تجارب معقدة في محاولة منهم لقياسها.

شبح على الميزان:

تقنيًا، خلط غرابة الميكانيكا الكمية مع هيئات النيوترينوات الثلاث يعني أن ولا واحدة منها تمتلك كتلة محددة، وبدلًا من ذلك يُشار إليها بخليط من ثلاث حالات كُتَلية مختلفة، وهذا يعني أن الفيزيائيين لا يبحثون عن القراءة الفعلية لكتلة النيوترينو، بل عن الحد الأعلى الذي يمكن لكتلة النيوترينو أن تصله.

تأتي 99% تقريبًا من كتلة أي جسم من طاقة الربط التي تربط الجسيمات الأولية ببعضها داخل الذرات، ونسبة 1% المتبقية من الكتلة تظل الكتلة الجوهرية لتلك الجسيمات.

ولإيجاد تلك الكتلة الجوهرية، بحث الفيزيائيون عمّا يسمى قيمة Q، وهو الفرق بين مجموع كتل المواد المتفاعلة الأولية ومجموع كتل المواد المتفاعلة النهائية. وباستخراج تلك القيمة بالوسع إجراء المزيد من القياسات لاستخراج الكتلة الجوهرية من الكتلة الكُلية للذرة.

في تجربة كاترين (KATRIN) لقياس كتلة النيوترينو1 في ألمانيا، وجد الباحثون قياس كتلة النيوترينو بقياس طاقته، فوفقًا لمعادلة أينشتاين E = MC² (الطاقة تساوي حاصل ضرب الكتلة بمربع سرعة الضوء)، وعليه حُسب فرق الكتلة عند تحلل الهيدروجين فائق الثقل إلى هيليوم، فعند حدوث تلك العملية ينبعث إلكترون ونيوترينو، وأظهرت أفضل نتيجة لتجربة كاترين أن الحد الأعلى لكتلة النيوترينو يساوي 0.8 إلكترون فولت، ما يجعله أصغر بحوالي 500,000 من كتلة الإلكترون.

وبالوسع أيضًا أخذ هذا القياس بطريقة معاكسة، إذ بمراقبة الإلكترون الذي يلتقطه النظير الاصطناعي هولميوم-163 ليتحول إلى ديسبروسيوم-163، فعندها أيضًا يتحرر نيوترينو.

ولكن للقيام بذلك يجب أن يكون النظير الكيميائي محاطًا بذرات الذهب، وهنا يقول فايجر: «قد يكون لذرات الذهب تأثير على النظير هوليموم-163، ولذلك من المهم قياس قيمة Q بأكبر قدر ممكن من الدقة باستخدام طريقة بديلة». ومقارنة قيمة Q مع القيمة المعروفة بطريقة كاترين لرصد أي مصدر خطأ محتمل في التجربة.

وللاقتراب أكثر من قياس منفصل لكتلة هذا النيوترينو المراوغ، صمم الباحثون تجربةً تُعرف باسم مصيدة بينان، وهي مزيج من خمسة مصايد بينينج تلتقط الذرات داخل مزيج من مجال كهربائي ومجال مغناطيسي، حيث تتأرجح في حركة معقدة تُعرف باسم الرقصة الدائرية.

وبوضع أيونات هولميوم-163 وأيونات ديسبروسيوم-163 المشحونة داخل مصايد بينينج وقياس الاختلافات الدقيقة في معدلات تأرجحها، تمكن الفيزيائيون من قياس الفرق في الطاقة الناتجة عن النيوترينو الإضافي في المصيدة.

وكانت النتيجة هي قياس قيمة Q التي قال الباحثون أنها أدق بخمسين مرة من نتيجة أي تجربة سابقة، وبمعرفة تلك النتيجة نحصل على تقدير أفضل للحد الأعلى لكتلة النيوترينو، وتُعد هذه خطوة صغيرة ولكنها مهمة للوصول الى معرفة كتلة النيوترينو في النهاية.

اقرأ أيضًا:

الصين تبني أكبر تليسكوب تحت الماء لرصد الجسيمات الشبحية النيوترينوات

رصد الجسيم الشبح النيوترينو لأول مرة في مصادم الهادرونات الكبير

ترجمة: محمد إسماعيل

تدقيق: محمد حسان عجك

المصدر