قيء الحيتان يباع بقيمة تقارب قيمة الذهب
ذات مرّة، تعثر طفلٌ يبلغ من العمر 10 أعوام بكتلة غريبة على شواطئ ويلز في بريطانيا. لم يكن يعرف حينها أنّ هذه المادّة الغريبة التي عثر عليها قد تساوي ما يُقارب الـ 6000 دولار من حيث القيمة. إمرأة مسنّة من نيويورك تبلغ من العمر 67 عامًا استلمت أيضًا حجرًا يشبه الشّمع من أختها الكبرى، ولحسن حظّها اكتشفت لاحقًا أنّ قيمة الحجر قد تساوي أكثر من 18 ألف دولار. كلّ هذا لأنّ حوتًا عانى قليلاً من سوء الهضم.
هذه المعدة المضطربة تصنع العنبر؛ مادة نادرة تعرف بقيمتها منذ آلاف السنين كعنصر أساسي في العطور و الأدوية. العنبر ينشأ في أمعاء ذكر حوت العنبر بعد أن يتغذّى على الحبار. الأطراف القوية المستدقة الرأس عند الحبّار تكشط أحشاء الحوت. يؤمن العلماء أن الحيتان تحمي نفسها من هذا الضّرر بإفراز مادة دهنية في أمعائها لتطوّق هذه الأطراف. أخيرًا، وبعد انتهاء عمليّة الهضم، يُفرز الحوت كتلة ضخمة تزن مئات من الأرطال مرة واحدة. (العلماء يعتقدون أنّ الحجم الكبير للكتل التي ترفزها الحيتان يُشير إلى أنّها تفرزها عن طريق الفم، أي أنّها تتقيّؤها ولا تفرزها كنوعٍ من الفضلات).
كُتل لزجة سوداء كريهة الرائحة من العنبر المقذوف للتوّ تطفو على سطح المحيط، وتتأكسد بالشمس و الهواء و الماء المالح، مع تبخُّر الماء باستمرار. ثم بعد ذلك تتحجّر و تتكسر إلي قطع أصغر، و أخيرًا تُصبع رمادية و شمعية يتجزأ فيها أطراف الحبار الصغيرة السوداء. تنشر هذه القطع رائحة حُلوة بعبير ترابي تُشبه التّبغ أو الصنوبر أو المِهاد. يقول خبير العنابر برنارد بيرين أنّ قيمة ونوعية القطعة تعتمد على كمّ الوقت الذي أمضته طفوًا أو بأي طريقة نضجت، لأنها “تنضج كالنّبيذ الصافي”.
هذا الكنز البحري قُدّرَ لآلاف السنين. تاريخيًا، كان الشرق أوسطيين يسحقونه و يتناولونه لزيادة القوة و الرجولة، و محاربة أمراض العقل و القلب، أو ليتبّلوا الطعام و الشراب. الصينيون أطلقوا عليه “عبير ريق التنين”. المصريون القدماء أحرقوه كبُخُور. بحث طبي بريطاني من العصور الوسطى يخبر القرّاء أنّ العنبر يساعد في التخلّص من الصداع و البَرْد و الصّرع من بين علل أخرى. و أحد الأسباب التي جعلت البرتغاليين يحتلوا جزر المالديف في القرن السادس عشر هي كسب الوصول للغلال ذات الأريج الغنية بها تلك الجزر.
الكلمة الإنجليزية “amber” مصدرها الكلمة العربية “عنبر”. منذ قرون، استعمل الفرنسيون لفظتي العنبر الرمادي و العنبر الأصفر للتفرقة بين العنبر المستخلص من المواد الحيوانيّة (أي فضلات الحيتان) و المعنى المُتداوَل الآن للعنبر و هو ذلك الرَّاتِينَج النباتي الذي يتميّز بلونه الذّهبي.
كحال باقي مكونات العطور المستخرجة من الحيوانات (مثل المسك)، العنبر لديه رائحته الخاصة بسبب مكوناته الكيميائية لدرجة أنها تضاف على العطور الشهيرة. هي أيضا تحسّن باقي المكونات الشَمّية، تماما كالملح حين يحسّن الطعم والبهارات، و -الأكثر أهمية- أنها تزيد من عمر باقي الروائح في العطر. كما يشرح كيميائي الروائح جورج بريتي من مركز مونيل للإستشعارات الكيميائيّة بفيلادلفيا: جزيئات العنبر محبة للدهون، مثل جزيئات العطر نفسه، لكن جزيئات العنبر أكبر و أثقل. يقول بريتي “جزيئات الرائحة عندها انجذاب لباقي الجزيئات المحبة للدهن، فيبقون متصلين بجزيئات العنبر و لا يتحولون للبخار مرة وحدة”.
لكن تظل الكثير من نواحي العنبر غامضة. لماذا نجد العنبر شائعا في نصف الكرة الأرضية الجنوبي، مع أن حيتان العنبر متواجدة في كل بحار العالم؟ لماذا تنتجه فقط حيتان العنبر – و خصوصا ذكور حيتان العنبر؟ كيف قرر الشرق أوسطيون القدماء بداية استخدامه كعلاج أو في العطور؟
بعض، و ليس كل، أنواع العنبر تم تصنيعها، ولذلك يبقى العنبر الأصلي قيّمًا. مع انخفاض عدد الحيتان من 1.1 مليون قبل حرفة صيدها لحوالي 350 ألفا اليوم، نسبة أقلّ من العنبر تطفو على سطح البحار. لكن يقول الخبراء أن العدد سيرجع كالسابق ببطء. و مع أن معظم الحجارة التي يجدها النّاس يتضح أنها صخور عادية، أو تفتتات في المحيط، فإن متسكعي الشواطيء و صيادي الأسماك يُكملون الطواف الأمواج في أمل العثور علي تلك القطعة من الذهب البحري.
وصف العنبر ب”ذهب البحر” ملائم، فهي تباع تقريبا بـ 20 دولار لكل جرام، بينما الذهب يُباع ب30 دولار.