بسبب كل العوائق الموجودة أمامنا، قد يُصدم البعض إذا قلنا أن الجنس البشري لن يرى أبدًا الطريق نحو استعمار كواكب خارج حدود المجموعة الشمسية. ولكن يبقى هناك احتمال أن يتمكن البشر من اكتشاف وسيلة لاستعمار أجرام أخرى داخل حدودها.
خطط طموحة وأفكار واعدة
قد لا يخفى على الجميع أن وكالة الفضاء الأمريكية ناسا تخطط إلى استعمار القمر، وإرسال بعثات مأهولة إلى المريخ. وهو الأمر الذي لا يبدو غريبًا ولا مستحدثًا نظرًا لأننا تمكنا من جعل البشر يعيشون خارج كوكب الأرض، ونحن نقصد بذلك البعثات المأهولة الموجودة على متن محطة الفضاء الدولية.
لذلك يبقى السؤال: هل هناك أي مكان آخر داخل حدود المجموعة الشمسية يمكن أن يعيش فيه البشر؟
يجيب على هذا السؤال عالم الفيزياء الفلكية بيكا يونهنن من معهد الأرصاد الجوي الفنلندي. يعتقد يونهنن أن البشر يمكن أن يعيشوا على الكوكب القزم سيريس.
لماذا سيريس؟
قبل أن يفسر لنا يونهنن هذه الأفضلية، دعونا نتعرف على الكوكب القزم. يقع سيريس في حزام الكويكبات بين كوكبي المريخ والمشتري، ويبلغ قطره 952 كم، وللكوكب القزم لقبان أحدهما هو كونه أكبر كويكب معروف اكتُشف في المجموعة الشمسية، وهو أيضًا الكوكب القزم الوحيد الواقع فيما قبل مدار الكوكب نبتون.
يفسر لنا يونهنن الأسباب التي تدفعنا إلى استعمار الكويكب سيريس قائلًا: «إن الدافع هنا هو أن نضمن بناء مستعمرة بشرية تعتمد على الجاذبية الاصطناعية التي تسمح بنشوء الحياة خارج حدود كوكب الأرض، وأن تسمح هذه الجاذبية بالتنقل والسفر بين المستعمرات التي قد تضم كل واحدة منها نحو 500 شخص على الأقل لكل كيلومتر مربع».
لا يمكننا اعتبار كوكب المريخ وقمر الأرض أكثر الأماكن ملائمةً لبناء مستعمرات بشرية مستقبلية، لأن الجاذبية الطبيعية لهما تختلف عن الجاذبية التي تتمتع بها الأرض. نحن نعرف بالطبع أن رواد الفضاء يواجهون مشكلات صحية متنوعة حين يعودون إلى الأرض بعد قضائهم وقتًا طويلًا في مناطق منخفضة أو منعدمة الجاذبية، ولم يتوفر للعلم حتى الآن معلومات كثيرة عن مخاطر النضوج للكائنات الحية في مثل هذه البيئة منخفضة الجاذبية. والبديل المتوفر لاستعمار الكواكب هو بناء مستعمرة اصطناعية فضائية تدور حول الشمس ما يعني أن يوفر دوران المحطة الفضائية خلق قوة جاذبية تشبه قوة الجاذبية التي يتمتع بها كوكب الأرض.
ولكن لهذا الأمر عوائقه أيضًا. فمثلًا إذا زاد عدد البشر الموجودين في مستعمرة واحدة عن العدد المرغوب، سوف يتطلب الأمر الحصول على عدد أكبر من المستعمرات. وهناك مخاطر تنطوي على وجود أكثر من مستعمرة تدور حول الشمس، كخطر الانجراف بعيدًا عن بعضها، ومشكلات السفر والتنقل بين المستعمرات، ومن المحتمل أيضًا أن تصطدم هذه المستعمرات ببعضها إذا كانت تدور حول جرم واحد.
تلمع فكرة الفيزيائي يونهنن هنا التي تتلخص في استخدام الكوكب القزم سيريس قاعدةً تدور حولها هذه المستعمرات ليكون لها إطار واحد.
مميزات الكوكب القزم سيريس
هذا الحل الجديد سوف يتغلب على مخاطر اصطدام المستعمرات ببعضها وسوف يحافظ عليها تدور في تناغم فريد. وقد يوفر أيضًا فرصةً للتغلب على مشكلة الموارد والمواد التي يمكن أن تُجمع مباشرةً من الكوكب القزم. من أهم هذه المواد مثلًا غاز النيتروجين بالغ الأهمية، لأنه من العناصر الأساسية المتوفرة بكثرة في الغلاف الجوي للأرض.
نعرف عن سيريس أن له تربة مالحة، وأعلنت دراسات حديثة اكتشاف وجود مياة في تربته، ويفكر العلماء في تركيب ألواح شمسية على سطح الكوكب القزم ما يمكنهم من توفير مصعد فضائي يسهل عملية نقل المواد من وإلى المحطة الفضائية.
يقول يونهنن إن استخدام مصعد فضائي لنقل المواد من وإلى سيريس يعد أرخص وسيلة يمكن الحصول عليها وهي أيضًا أفضل طريقة لنقل المواد نظرًا لأن سيريس له جاذبية منخفضة وله سرعة دوران عالية ولذلك يصبح من السهل الحصول على مصعد فضائي.
ولبناء درع حماية من الإشعاع الكوني يمكن استخدام الماء والسيليكات الموجودة بوفرة تحت سطح سيريس. ومن المتوقع أن تنقسم الأماكن داخل المستعمرات إلى مناطق ريفية وأخرى مدنية، فيكون عمق التربة في المناطق الأولى 4 أمتار وهو عمق تحتاجه النباتات والأشجار للنمو، فيما يكون عمق التربة في المناطق المدنية نحو 1.5 مترًا فقط.
وبسبب بعد الكوكب القزم عن الشمس يمكن استخدام مرايا تعكس ضوء الشمس مباشرةً نحو المنازل، من أجل زراعة المحاصيل وتوفير الطاقة والاستضاءة. يمكن تثبيت هذه المرايا على جانب من القمر الصناعي ويمكنها أن تمتص المزيد من ضوء الشمس فيما يدور الكوكب القزم حول الشمس.
يوضح يونهنن نظريته قائلًا: «باستخدام الهندسة القطعية الزائدية في تصميم القمر الصناعي العملاق، نتوقع أن يتمكن تماثله من التغلب على العزم المداري حتى أنه قد لا يحتاج إلى عجلات تحكم في اتجاهها في المدار».
ويضيف يونهنن: «سوف تضاء المنازل بضوء الشمس الطبيعي. على أن يجمع لوحان من المرايات ضوء الشمس في هذا القرص يميل كل لوح منهم بزاوية 45 درجة وتكون لكل منهما كثافة قطعية متكافئة».
إذا أردنا الدقة، فعلى الكوكب القزم سيريس لن تكون هناك كوارث طبيعية أو مخاوف من تبعات سوء الأحوال الجوية، ويبقى ارتفاع معدلات السكان هو الاحتمال السيئ الوحيد المتوقع حدوثه على الكوكب القزم. حتى أنه ليس احتمالًا قاطعًا، فيقدر يونهنن أن سيريس بإمكانه أن يستوعب ما يفوق 10 آلاف مرة عدد السكان الموجودين على الأرض حاليًا.
لكن تبقى هذه الأعداد مجرد تنبوءات، وتبقى الجاذبية المدارية الاصطناعية هدفًا وحلمًا يعكف على تحقيقه العلماء.
يؤكد يونهنن أن المصاعد الفضائية، والمرايا العملاقة، ودروع الوقاية من الإشعاع الكوني أساسيات لا غنى عنها لبناء المستعمرات الفضائية. وما يزال العلماء يعملون على تصميم المحطات الفضائية التي قد تدور حول الكوكب القزم ويعملون على التفكير في آلية السفر والتنقل بالبشر إلى ما بعد كوكب المريخ.
ولكن ما إن توفر للعلماء حل لهذه المشكلات، يتكهن يونهنن بأن الأمر لن يأخذ سوى سوى 22 عامًا لبناء قمر صناعي عملاق يدور حول سيريس يمكن أن يعيش على متنه رواد من البشر.
يفسر يونهنن هذا الأمر: «إن صعوبة تحقيق هذا الحلم قد يدحضها استعمار البشر لكوكب المريخ. ما يعني أنه بمجرد أن يبتكر البشر طريقة تمكنهم من استعمار كوكب المريخ، سوف يتمكنون من استعمار أي كوكب آخر بذات النسق».
ويبرر يونهنن المسافة التي قد تستغرقها الرحلة للوصول إلى سيريس بأنها وإن كانت أطول من المسافة بيننا وبين كوكب المريخ، لكن الرحلة سوف تتجنب التعرض للغبار الكوني والهبوط على الكواكب الأخرى وما قد يسببه ذلك من تأخيرات ومشكلات. أما عن الوضع على سطح الكوكب القزم، فيتنبأ يونهنن بأن توفير مصعد فضائي سوف يكون أرخص وأفضل وسيلة لنقل المواد إلى أي مكان، وأن حرارة البيئة سوف تكون ملائمةً وسوف تتوفر الطاقة بسهولة بسبب غياب الكسوف والخسوف هناك في عالمنا الجديد.
اقرأ أيضًا:
أدلّةٌ على غِنى سطحِ سيريس بالكربون
سيريس الكويكب المليء بالاسرار اكتشاف اثار مواد عضوية
ترجمة: هبة الحارس
تدقيق: حسام التهامي