كان يُعتقد أن مجتمعات منطقة حوض الكاربات كانت مستغرِقة في حالة من التفتت والانهيار في فترة العصر البرونزي المتأخر. وفي الحقيقة، كانت معظم الحضارات المجاورة للبحر الأبيض المتوسط متجهة إلى وضع كارثي معروف تاريخيًا باسم: انهيار العصر البرونزي المتأخر.
شرع في العمل فريق دولي بقيادة عالم الآثار باري مولوي من جامعة كوليدج دبلن بأيرلندا، إذ بدأ تحقيقاته العملية في موقع العمل بإجراء عمليات المسح والحفريات والتنقيب الجيوفيزيائي. ولكن لم يُكشف عن الصورة الكاملة إلا بعد تجميع الصور الجوية وصور الأقمار الصناعية معًا الخاصة بحوض الكاربات الجنوبي في منطقة أوروبا الوسطى، المعروفة بأنها مخبأ لحصون ما قبل التاريخ.
قال مولوي: «إن بعض أكبر المواقع، التي نطلق عليها اسم الحصون الضخمة، قد عُرِفت منذ بضع سنوات فقط، مثل: غراديشت ويدوس أو كساندابالوتا أو سانتانا أو المنطقة المذهلة المسماة: كورنيستي إياركوري المذهلة».
تُعَّد كورنيستي إياركوري Corneşti Iarcuri أكبر قلعة مُؤرَّخة للعصر البرونزي في أوروبا، إذ يحيط بها عدد من الخنادق والأسوار التي يصل طولها إلى 33 كيلومترًا، وعليه نستنتج أنها أكبر بكثير من القِلاع والحصون التي تخص الحضارات الأخرى في العصر البرونزي مثل الحيثيين أو الميسينيين أو المصريين.
في القرن السادس عشر قبل الميلاد، اُهمِلَت هذه المناطق المركزية الكبيرة، ما دفع علماء الآثار إلى افتراض نظرية انهيار هذا المجتمع تمامًا، ما ينذر بمصير حضارات عديدة ترجع للعصر البرونزي المتأخر.
لم يعد مولوي وفريقه يعتقدون أن هذا هو الحال تمامًا بالنسبة لمجتمعات حوض الكاربات، على الأقل ليس حتى وقت القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
قال مولوي: «لم تكن هذه المواقع الضخمة فقط موجودة، بل كانت جزءًا من شبكة مكتَّظة من المجتمعات المترابطة ترابطًا وثيقًا والمعتمِدة على بعضها البعض. وفي وقت ذُروتها، لا بد أن الذين كانوا يعيشون داخل شبكة مواقع بانونيا السفلية قد وصل عددهم إلى عشرات الآلاف».
بالرغم من حالة التراجع التي كانت لمراكز السلطة الهائلة، فإنه في الفترة من 1600 سنة إلى 1450 سنة قبل الميلاد، شكَّل السُكان في منطقة جنوب سهل بانونيا نظامهم السياسي في شكل دول سياسية صغيرة، حيث شبكة من المستوطنات الضخمة والمواقع الأصغر، معظمها على بعد حوالي 5 كيلومترات من بعضها.
اكتشف مولوي وفريقه أكثر من مئة مستوطنة ذات كثافة سكانية عالية في المنطقة المنخفضة، التي يبدو أنها اعتمدت على الممرات المائية والأراضي الرطبة المجاورة بهدف الحصول على الموارد.
من المحتمل أن ذلك قد ساعد هؤلاء الناس في تأجيل بعض التأثيرات المرتبطة بالمناخ، وحفَّزَت انهيار المستوطنات الأخرى، على الرُغم من أنه في بداية عام 1250 قبل الميلاد تقريبًا بدأ نقص الأمطار يؤثر سلبيًا على هذه المجتمعات التي اتسمت بتوجهها صوب الأراضي الرطبة.
وبحلول عام 1200 قبل الميلاد، هُجِرَت جميع هذه المواقع جماعيًا تقريبًا.
يقول مولوي: «كان اكتشاف هذه الأنظمة السياسية الجديدة ومعرفة مدى ارتباطها بالمجتمعات المؤثرة المعروفة خطوةً رائعة، إذ ساعدتنا ما اتسمت به من واقعية على التعرف على كيفية ما عانوه في النهاية من مصير مماثل جراء موجة الأزمات التي ضربت هذه المنطقة الأوسع».
تتحدى هذه المجتمعات العديد من حيثيات عصور ما قبل التاريخ الأوروبي، ويبدو أنها كانت مركزًا مهمًا للابتكار والسياسة والتجارة في الفترة من 1500 سنة إلى 1200 سنة قبل الميلاد.
يصف الباحثون هذه المجتمعات بأنها تعتمد على بعضها ومترابطة ترابطًا قويًا، إذ كانت تعمل مع مؤسسات اجتماعية معقَّدة إلى جانب ما كان هناك من هياكل السلطات المصاحبة بهدف إدارة التواصل والتعاون بالإضافة إلى الصراعات وحركات العنف.
قال مولوي: «استطعنا تحديد المناظر الطبيعية المستقَّرة بالكامل، مع استكمال الخرائط الخاصة بمساحة المواقع وتخطيطها، وصولًا إلى مواقع منازل الناس داخلها». واستطرد الحديث موضحًا: «يعطينا هذا حقًا رؤية غير مسبوقة لكيفية عيش هؤلاء الأشخاص في العصر البرونزي مع بعضهم البعض ومع جيرانهم».
اقرأ أيضًا:
ما أسباب انهيار العصر البرونزي؟
نهاية العصر البرونزي.. حين اندثرت حضارات بأكملها
ترجمة: ماريان رأفت الملاح
تدقيق: حُسام الدِّين طَلعَت