تحمل مجموعة قوانين حمورابي المنحوتة في الصخر منذ آلاف السنين مبادئ وأفكارًا ما زالت تطبق حتى يومنا هذا.
مر نحو 3800 عام مذ أن بسط حمورابي سيطرته على منطقة بلاد ما بين النهرين، وتضم اليوم العراق وأجزاء من الكويت، وتركيا، وسوريا. ومع ذلك، ما زالت قوانينه ذات تأثير في عصرنا الحالي، إذ تُشاهد صورته ضمن منحوتة مشرعي العالم القديم على الجدار الجنوبي للمحكمة الأمريكية العليا.
يضم قانون حمورابي مجموعة من 282 قانونًا ولائحةً مكتوبة بالخط المسماري على سطح نصب حجري بارتفاع 2.2 متر، الذي اكتشفه الباحث الفرنسي جاك دو مورجان عام 1901، وهو اليوم جزء من المجموعة في متحف اللوفر في باريس.
يعتبر المؤرخون قانون حمورابي دليلًا لنظام منطقة ما بين النهرين يهدف إلى حل النزاعات، ومعاقبة الجرائم، وتنظيم ممارسة الأعمال التجارية، وكان له تأثير مبكر في تطور أنظمة القوانين والمحاكم في الولايات المتحدة وغيرها من المجتمعات الحديثة عبر قرون عديدة.
تفسر كيلي آن ديموند، أستاذة تاريخ مساعدة في جامعة فيلانوفا قائلة: «يُعد القانون تسجيلًا محفوظًا ودقيقًا في فترة حكم السلالة الأولى لبابل».
المتهم بريء حتى تثبت إدانته
تعلق ديموند أن بعض قوانين حمورابي قد تبدو شديدة القسوة أو حتى بربرية بمقياس عصرنا، مثل: بيع الملكية المسروقة أو بناء بيت فيه عيب أدى إلى سقوطه، فكلاهما جريمتان عقوبتهما بالموت، وبتر الأذن عقوبة العبد الذي يرفض سلطة سيده.
تقول ديموند: «مع ذلك، نرى في قوانين أخرى دعمًا واهتمامًا بالفئات المهمشة، وتُعد أولى النصوص التي تذكر النفقة».
يجسد قانون حمورابي النظام القضائي لمنطقة ما بين النهرين القديمة، ضامًا مبادئ متبعة حتى يومنا هذا في قاعات المحاكم الأمريكية. فمثلًا، ينص القانون على أن إدانة أحدهم بجرم ما تستلزم جمع الدلائل وإثباتها، وتصرح ديموند: «ألا تبدو هذه الجملة مألوفة (المتهم بريء حتى تثبت إدانته)»؟
تعلو مسلة حمورابي منحوتة تصور مشهدًا للملك وهو يتلقى القوانين من شماش، وهو إله الشمس في بلاد ما بين النهرين وقاضي الآلهة والبشر. ولا بد أن القصة الأصلية ساعدت في تحسين صورة حمورابي حاكمًا مستمدًا قوته وسلطته من الآلهة، بيد أن قوانينه، وفقًا للمؤرخين، قد بنيت على قوانين قائمة أصلًا وقضايا المحاكم السابقة.
توضح أماندا بوداني، أستاذة فخرية في التاريخ في جامعة البوليتكنك في ولاية كاليفورنيا في مدينة بومونا، ومؤلفة كتاب (النساجون والكتبة والملوك: تاريخ جديد للشرق الأدنى القديم): «جمع الملك أور ناما أول وأقدم مجموعة قوانين قبل حمورابي بنحو 300 عام، واحتوت على عقوبات بدنية أقل نسبيًا وغرامات مالية أكثر من تلك التي نجدها في قوانين حمورابي».
وتضيف بوداني: «مع ذلك، فإن العقوبات في وقت حمورابي كانت غرامات في معظم الوقت بغض النظر عما تنص عليه القوانين. ومن المحتمل أن النظام القضائي استمر على الحال نفسه طيلة تلك القرون».
قانون حمورابي مقابل القوانين السابقة لبلاد ما بين النهرين
يوضح داون ماكورماك، عميد مساعد في كلية الدراسات العليا في جامعة ولاية تينيسي الوسطى، ومؤرخ متخصص في مصر والشرق الأدنى قائلًا: «يختلف قانون حمورابي عما سبقه من القوانين في بلاد ما بين النهرين في أنه أكثر تفصيلًا، ملهمًا قوانين الوقت الحاضر وقواعده، ومعطيًا رؤية واضحة عن البنية الاجتماعية، وآلية تطبيق القوانين على فئات الناس المختلفة. ولقد تكيفت القوانين حسب تنوع السكان لملاءمة الظروف الجديدة».
مع ذلك، لا نستطيع تحديد مدى الأهمية الفعلية لقانون حمورابي آنذاك. ويقول المؤرخون إن القوانين غير وافية، مع أنها تحتوى على أحكام مفصلة من أجر الطبيب لقاء علاج الكسور، حتى ثمن استئجار ثور لدرس الحبوب. ويُعد غياب قانون أساسي بشأن القتل ثغرة بارزة فيه. إذ إن حمورابي حسب بوداني: «لم يحاول تغطية كافة المخالفات والجرائم أو يأتي بمبادئ تنظيمية وراءها».
تقول بوداني: «يبدو أن حمورابي عظم بعض الشيء من قانونه بنحته على الصخر، إذ إن سجلات محكمة في بلاد ما بين النهرين الباقية لم تشر إلى أن أي من القضاة قد لجأ إلى قانونه في إصدار أحكامهم».
ربما كانت مجموعة قوانين حمورابي شكلًا خارجيًا للحكم بقدر ما كانت شكلًا داخليًا له. إذ أعلن حمورابي عن قوانينه إبان نهاية العام 43 من حكمه، وربما كان يفكر كثيرًا في ترك تذكار له للأجيال القادمة.
تقول بوداني: «تظهر القوانين أن حمورابي مهتم جدًا بأن يراه الآخرين ملكًا عادلًا، سواء في زمنه أو في الأزمان المستقبلية، وشدد على ذلك في مقدمة قوانينه وخاتمتها».
تقول دايموند أيضًا: «لا شك في أن حمورابي أراد أن يُنظر إليه على أنه الحاكم الحامي لرعاياه، إضافة إلى أنه بديل للآلهة على الأرض، والقائد الحربي، ومعمّر البلاد، والقاضي المطلق».
القانون يمثل العدالة المنصفة والمحايدة
أهم ما يمكن قوله أن لقانون حمورابي رمز لوجود النظام القضائي في بلاد ما بين النهرين، ولابتكاراته تأثير مستمر.
توضح بوداني: «منح النظام القضائي في بلاد ما بين النهرين أهمية كبيرة للحقيقة وطرق الوصول لها بواسطة الشهود، والشهادة الشفوية، والأدلة المكتوبة، وحلف اليمين لقول الحقيقة. وكان هذا الأخير خاصةً فعالًا؛ لأن الناس آمنوا بأن اليمين الكاذب يجلب عقاب الآلهة. وكان القضاة يستمعون للقضايا، وعادةً ما يدون الكتبة الأحداث التي وقعت في أثناء المحاكمة، ويظهر هذا فعالية النظام، وثقة الناس به، وجنبهم القصاص العادل خارج المحاكم».
يُعد قانون حمورابي مهمًا لتعزيزه فكرتي الحياد والإنصاف في العدالة. ففي كافة فقرات القانون، أعرب حمورابي عن أنه ملك يرغب في ضمان حصول الجميع على العدالة سواء كانوا فقراء أو أغنياء حسب قول بوداني. وإنها فكرة تسعى العدالة الحديثة جاهدة لتحقيقها حتى لو لم تنجح دومًا.
اقرأ أيضًا:
ترجمة: رغد جيوسي
تدقيق: هادية أحمد زكي