حكم حمورابي بابل ببراعة دبلوماسية وعسكرية. وأتقن فن الترويج عن نفسه. لقد مرّ أكثر من 3800 عام على حكم حمورابي الملك البابلي وشريعته التي نُقشت على أعمدة حجرية بحجم إنسان، ووُزّعت في أحياء مملكته.
إن الـ 282 قانونًا ليست إلا انجازًا من إنجازات القائد العديدة، إذ جعل من مدينة بابل؛ الواقعة جنوبي بغداد الحالية بحوالي 96 كم قوةً مهيمنةً في بلاد ما بين النهرين القديمة.
استمر حكم حمورابي من عام 1792 ق.م، وحتى وفاته عام 1750 ق.م. كان حمورابي، في أثناء فترة حكمه تلك نموذجًا للقائد الذي يجمع القوة العسكرية والبراعة الدبلوماسية والمهارة السياسية لإنشاء مملكة امتدت من داخل الخليج الفارسي إلى 400 كم بمحاذاة نهري دجلة والفرات، والسيطرة عليها.
يذكر أستاذ التاريخ في جامعة كولومبيا مارك فان دي مييروب في كتابه “سيرة ملك بابل “حمورابي” المنشور عام 2005: «إن لحمورابي إنجازات في جوانب أخرى، غير نقش قوانينه على الحجر. لقد كان حاكمًا ومحاربًا ودبلوماسيًا ومديرًا».
ووفقًا للأستاذة كيلي آن دايموند، أستاذة التاريخ زائرة مساعدة في جامعة فيلانوفا، والمتخصصة في تاريخ الشرق الأدنى وعلم الآثار، فإن حمورابي أصبح الحاكم الأقوى في المنطقة لأنه رجل دولة فطن، وأوضحت كيلي مهاراته في المناورة للهيمنة والسيطرة.
تقول الأستاذة دايموند: «لم يكن لدى حمورابي أي مشكلة في تشكيل تحالفات ثم فسخها متى شاء، لقد كوّن شبكةً معقدةً من الدبلوماسيين والجواسيس تعمل تحت يده، ليصبح بذلك أكثر الحكام اطلاعًا في المنطقة».
لفترة طويلة اعتمد حمورابي على الدبلوماسية لدعم مصالح بابل في فترة بناء جيشه تحديدًا، ولم يتجه نحو القوة إلا في السنوات الأخيرة من حكمه. إذ كانت لعبةً طويلة المدى طال انتظارها، فقد كان لديه متسع من الوقت للعب، بما أنه توّج في سن أصغر من ملوك المنطقة الآخرين.
حمورابي المؤسس والفاتح:
أصبح حمورابي ملكًا لبابل عام 1792 ق.م، ولم تكن بابل آنذاك خصمًا يذكر أمام منافستها في الجنوب مملكة لارسا؛ التي هزم ملكها ريم سين الأول والد حمورابي في المعركة، فسارع حمورابي إلى تعزيز مدينته، إذ كان أول ملك بابلي يشيّد أسوار دفاع حول المدينة، بحسب المؤرخة سوسان وايز باوير. ورغب حمورابي في أن يكسب ود رعاياه، فأصدر إعلانًا ألغى فيه كل ديونهم، في بادرة كررها أربع مرات طوال فترة حكمه.
اتبع حمورابي نهج حكام اليوم لزيادة شعبيته، بإصلاح الطرق والجسور في ولايته، ثم انكب على تقوية نفسه سياسيًا بالبدء بمشاريع بنى تحتية واسعة، فبنى المعابد، والصوامع والقصور، وجسرًا يعبر نهر الفرات؛ موسعًا بذلك المدينة على الضفتين، وحفر قناة ري ضخمةً حمت المدينة من الفيضانات.
آتت كل هذه الاستثمارات ثمارها، وتطورت بابل تدريجيًا لتصبح مزدهرةً تنعم بالثراء، لكن حمورابي حرص أن يعرف الجميع أنه السبب في ذاك الخير كله، وأن يدركوا أنه يفي بواجباته أمام الآلهة، التي عهدت إليه الأرض، فيذكر المؤرخ ويل دورانت في كتابه “قصة الحضارة” مقولة لحمورابي: «بابل يا من حولتُ ضفتيها إلى أراضٍ خصبة وراكمتُ فيها أكوامًا من الحبوب، ووفرتُ فيها للأراضي مياهًا لاتنضب، وجمّعت أولئك المشتتين، وشغّلتهم في المراعي وزودتهم بالمياه والخيرات، وأسكنتهم بيوتًا هادئةً».
قضى حمورابي عدة سنين في بناء بابل قبل شروعه بالفتوحات بحسب ما ذكر ستيفن بيرتمان في كتابه “دليل الحياة في بلاد ما بين النهرين القديمة”، فشنّ بتتابع سريع حروبًا على مملكة إشنونا في الشرق، فمملكة آشور في الشمال، ثم مملكة لارسا في الجنوب، ومملكة ماري في الغرب.
كان لدى حمورابي طريقة بارعة -وإن كانت ذات وجهين- في دمج القوة والدبلوماسية. فبحسب موسوعة التاريخ القديم، فإن حمورابي كان يشكل تحالفات مع حكام آخرين، ثم يفسخها متى شعر بأن الوقت مناسب لذلك.
راوغ حمورابي في شن الحروب، ومن خدعه أنه سد إمدادات مياه مدينة منافسة له، لاستخدام عطش الشعب وسيلة ضغط على القادة للاستسلام، أو تكتيك هجوم يطلق فيه المياه المحبوسة؛ مسببةً بذلك فيضانات مدمرةً، تمهد له الطريق قبل هجومه.
قانون حمورابي: نموذج تشريعي حتى يومنا:
شمل قانون حمورابي المفصل أمورًا من مثل: سلامة المباني والميراث وانضباط العبيد والرسوم التي على الأطباء البيطريين القدامى دفعها مقابل العمل على الثيران والحمير.
تشير دايموند أن قانون حمورابي لم يكن أول نظام قانوني، إذ إن حمورابي استوحى بعض قوانينه من ملوك سابقين، لكنّ فكرة قيام مجتمع على مبدأَي القانون والنظام على الناس كافةً، لاقت صدىً كبيرًا.
تشرح دايموند: «تُعد كثير من قوانين حمورابي اليوم قاسيةً أوبربريةً، وأخرى تُظهر الاهتمام والمسؤولية تجاه الفئات المهمشة في المجتمع».
يتضمن قانون حمورابي قواعد مألوفةً لدينا، من مثل: المبدأ القائل بضرورة جمع الأدلة وإثباتها لإدانة شخص ما في جريمة. تقول دايموند موضحةً: «ألا تبدو قاعدة “المجرم بريء حتى تثبت إدانته” مألوفةً؟». إضافةً إلى أنه ينص على الشكل الذي يمكن أن تكون عليه أولى دفعات النفقة.
حمورابي حاكم محب للخير:
بطريقة ما تُعد شريعة حمورابي أداة علاقات عامة، ووسيلةً ذكيةً للترويج لنفسه على أنه حاكم حكيم وخيّر؛ هذا ما يجسده أحد الأعمدة الباقية «حمورابي في لقاء مع شمش إله العدل عند البابليين».
توضح دايموند: «لا شك في أن حمورابي تعمد إظهار نفسه على أنه حاكم عادل يحمي مواطنيه، وينوب عن الآلهة على الأرض، وقائد حرب، ومؤسس، وقاضٍ مطلق».
ربما كان حمورابي واحدًا من أوائل المروجين لأنفسهم سياسيًا. ولم تكن تلك مبالغةً لا تصدق، فقد كان حمورابي محبًا للخير فعلًا وأراد لرعيته عيش حياة أفضل. ذكرت إحدى مراسلات الملك مع موظفيه بوضوح إمكانية استئناف الحكم أمام الملك، وتأجيل التنفيذ إن شعر أي شخص بسوء معاملة في محاكم مملكة حمورابي.
يذكر كاتب السيرة فان دي ميروب: «لقد كفل للمواطنين كافةً الحكم المنصف، ولم يكن بنظر رعيته حاكمًا يُخشى جَوره».
اقرأ أيضًا:
لمحة تاريخية عن المركز الأمريكي للسيطرة على الأمراض والوقاية منها
ترجمة: رغد جيوسي
تدقيق: منال توفيق الضللي