البحث عن أصول الحياة. في عام٢٠١٠ أجرى العلماء تحليلًا على الحمض النووي DNA لعينة من داخل ترسبات في المحيط المتجمد الشمالي ليجدوا شيئًا مفاجئًا؛ كائنًا مجهولًا وغير معروف سابقًا ينتمي إلى شكل من الميكروبات تدعى العتائق أو البكتيريا القديمة Archaea كما يمتلك خصائص جينية تنتمي لمجموعة مختلفة تمامًا تدعى حقيقيات النوى Eukaryota.
أُطلق على الاكتشاف اسم لوكي أركيوتا Lokiarchaeota بعد أن اكتُشف في الفتحات الحرارية المائية في قلعة لوكي Loki’s Castle بالقرب من غرينلاند (وهو موقع يحتوي على خمس فتحات حرارية مائية نشطة في المحيط الأطلسي بين غرينلاند والنرويج) لكن الشكوك ضللت النتائج. هل يمكن أن تكون العينة ملوثة بشيء آخر داخل الترسبات؟
الآن وبفضل عمل العلماء اليابانيين، عزلوا ولأول مرة Lokiarchaeota ونمّوها داخل المختبر، ما سيبدّد هذه الشكوك. للمرة الأولى سيتمكن الباحثون من دراسة الـ Lokiarchaeota الحية عن كثب، ومن الممكن أن تكشف لنا هذه الدراسات حقائق عن أسلافنا الأوائل على هذا الكوكب المذهل، نُشرت أبحاثهم على bioRxiv وتنتظر المراجعة للنشر.
تقسم شجرة الحياة في قاعدتها إلى ثلاثة مجالات، واحدة منها البكتيريا، الميكروبات وحيدة الخلية التي لا تحتوي على نواة أو عضيات مرتبطة بالغشاء، كما أنها تملك هيكلًا يشبه الشعر المتموج يُدعى السوط flagella.
المجال الثاني حقيقيات النوى، وهي كائنات حية لها نوى وأغشية، هذا المجال يشملنا نحن البشر والنباتات والحيوانات والطحالب.
ثم هناك العتائق، تشبه البكتيريا من حيث عدم وجود نواة وعدم وجود عضيات مرتبطة بالغشاء وتتحرك بمساعدة السوط لكنها تحوي اختلافات رئيسية حيث تنقسم بشكل مختلف، وجدران خلاياها مصنوعة من مواد مختلفة وحمضها النووي الريبوزي RNA مختلف لدرجة فصلها عن شجرة التطور أو شجرة علم الوراثة العرقي.
لكن بعد هذه التصنيفات أتت الـ Lokiarchaeota بالإضافة لبعض العينات القديمة الأخرى التي تمتلك خصائص حقيقيات النوى، أطلقت عليها الأسماء التالية:
أودن أركيوتا Odinarchaeota، وثور أركيوتا Thorarchaeota، وهيمدال أركيوتا Heimdallarchaeota (نسبة لآلهة الشعوب الإسكندنافية القديمة) إذ يطلق عليها مجتمعة آسغارد أركيا أو عتائق آسغارد Asgard archaea، هناك اعتقاد لدى العلماء بأنها قد تكون أصل حياة حقيقيات النوى بعد ابتلاع عتائق آسغارد للبكتيريا.
لكن دون أن تتم دراسة هذه الكائنات الحية بشكل منفرد ومستقل لن نتمكن من معرفة حقيقة الأمر، وهنا يظهر دور العلماء اليابانيين عندما استخرجوا عينة من داخل الترسبات في حوض نانكاي Nankai Trough على عمق ٢٥٣٣ متر (٨٣١٠ قدم) تحت سطح البحر في عام ٢٠٠٦.
كل ذلك قبل أن يتم التعرف على عتائق آسغارد، لكن بفضل كشف تحليلات الحمض النووي الريبوزي في وقت لاحق تبين وجود مخلوقات تشبه الـ Lokiarchaeota، عندما بدأ الفريق عمله لم يكن يعلم بعد بهذه الحقائق.
على مدى خمس سنوات، عملوا على زرع العينات بكل عناية ودقة في نظام مفاعل حيوي يعمل على استمرار تدفق الميثان، صُمم ليشابه ظروف فتحات تنفيس الميثان في أعماق البحار، لكن وببطء شديد تضاعفت الميكروبات.
أما في الخطوة التالية، أخذت العينات من المفاعل الحيوي ووضعت في أنابيب زجاجية وأضيفت إليها مواد مغذية لتستمر وتنمو، بقيت العينات لسنة أخرى هنا وبدأت بتطوير كائنات قليلة وضعيفة جدًا هي Lokiarchaeota.
استمر عمل الفريق وقتًا إضافيًا استثمره في عزل وزرع وتنمية هذه الفصيلة البطيئة، حيث تحتاج الجراثيم لتتضاعف حوالي النصف ساعة بينما احتاجت الـ Lokiarchaeota ٢٠ يومًا.
وكتب الباحثون: «تقوّي وتخصّب الأقليات الفرعية المتجددة والمتمثلة بما سبق العتائق تدريجيًا مع معدل نمو منخفض ونتاج خلوي قليل».
«لدى هذا المسار من ٣٠ إلى ٦٠ يومًا، وهو ما يسمى مرحلة التأخر ويتطلب ثلاثة أشهر ليصل إلى النمو الكامل. لم يحسّن تباين درجات الحرارة بين العينات المزروعة ومجموعات المادة المتفاعلة أو الركيزة بشكل كبير من مرحلة التأخر بالنسبة لمعدل النمو أو نتاج الخلية».
استمرت التجربة ١٢ سنة وأطلق على الميكروب المزروع اسم: بروميثيو أركيوم سينتروفيكام Prometheoarchaeum syntrophicum مشتقة من بروميثيوس Prometheus وهو من جبابرة الميثولوجيا الإغريقية القديمة الذين ينسب لهم خلق البشرية من طين.
حقق العلماء الكثير من النتائج الغريبة أولًا: لا ينمو الـ بروميثيو أركيوم إلا بوجود أحد الميكروبات التالية أو مجتمعة وهي العتائق الميثاناويةarchaeon Methanogenium، والبكتيريا هالو ديسولفوفيبريو Halodesulfovibrio، عندها يقوم الـ بروميثيو أركيوم بنفث الأحماض الأمينية في الغذاء الذي تأكله الميكروبات الأخرى منتجة الهيدروجين.
هنا بينت التجارب أن انتشار الهيدروجين قد يسبب عائقًا أمام نمو الـ بروميثيو أركيوم البطيء أساسًا، ما يشير إلى وجود علاقة تكافلية بين العتائق والميكروبات تدعى هذه العلاقة بـ الاغتذاء التبادلي syntrophic وهذا يعني أن نمو كل منهما معتمد على غذاء الآخر.
عندما فحص العلماء هذا الكائن الحي تحت المجهر الإلكتروني تبين وجود مجسات أو مخالب طويلة tentacles بارزة من جسده والتي بدورها تحتضن الميكروبات الشريكة.
هنا وُضعت فرضية أن هذه الكائنات طورت علاقة بينها وبين الميكروبات التي تحتاج إلى الأكسجين في الفترة التي زادت فيها نسب الأكسجين في الكوكب لتضمن استمرارها على قيد الحياة على طريقة حقيقيات النوى، وبالفعل فإن سلاسل الحمض النووي كشفت عن خصائص حقيقيات النوى التي ظهرت في عتائق آسغارد الأخرى، يبدو أنه هناك حاجة للاستمرار في مثل هذه الأبحاث فقد يكون الـ بروميثيو أركيوم مختلفًا تمامًا عن العتائق الموجودة منذ مليارات السنين. وهو أبعد ما يكون عن إثبات أن حقيقيات النوى نتجت من العتائق القديمة.
الدراسة متوفرة الآن قبل أن تنشر بشكل رسمي وهذا يضع الكثير من الاحتمالات حول ماهية تصرف المجتمع العلمي في الوقت الحالي، وبغض النظر عن ذلك سنتعلم الكثير من هذه الدراسة الجديدة.
يقول ثيجز إيتيما Thijs Ettemaعالم الأحياء الدقيقة التطورية من جامعة فاغننجن في هولندا Wageningen University لمجلة الطبيعة، وهو لم يكن ضمن الفريق البحثي السابق: «هذه ورقة بحثية ضخمة تعكس قدراً هائلاً من العمل والمثابرة. إنها خطوة كبيرة إلى الأمام في فهم هذه السلالة الهامة».
البحث متاح على bioRxiv.
اقرأ أيضًا:
الإنزيم الذي يفسر أصل الحياة الآن في أنبوبة اختبار
العلماء يقتربون من تحديد أصل الحياة على الأرض
ترجمة: عمر رافع النبواني
تدقيق: فارس سلطة
مراجعة: تسنيم المنجد