تقبع النواة الداخلية للأرض على عمقٍ مذهل يصل إلى أكثر من 5100 كيلومترًا، وهي كرة صلبة من الحديد والنيكل تؤدي دورًا حيويًا في تكوين الظواهر التي نعيشها على السطح. بل وبدونها، لكانت الحياة على الأرض شبه مستحيلة.

لكن على الرغم من أهميتها، فإن طريقة تشكّلها وتطورها لا تزال لغزًا. ولا نعلم حتى كم يبلغ عمرها. ولحسن الحظ، فإن علم فيزياء المعادن يقربنا من حل هذا اللغز.

تشكل النواة الداخلية للأرض قلب المجال المغناطيسي الذي يحرس كوكبنا، كدرعٍ خفي يتصدى للإشعاعات الشمسية الضارة. ولعل هذا الحقل المغناطيسي كان القوة الحاسمة التي هيأت الظروف المثالية لازدهار الحياة على الأرض منذ مليارات السنين.

كانت النواة الداخلية للأرض في يوم من الأيام منصهرة وسائلة، لكنها تصلبت مع مرور الزمن.

مع انخفاض درجة حرارة الأرض تدريجيًا، تتمدد النواة الداخلية نحو الخارج مع تجمّد السائل الغني بالحديد المحيط بها. ومع ذلك، تظل حرارة النواة الداخلية مرتفعة للغاية، حيث تصل إلى 5000 كلفن (4726.85 درجة مئوية) على الأقل.

تؤدي عملية البرودة المستمرة هذه إلى إطلاق عناصر مثل الأكسجين والكربون، التي لا تتناسب مع الوجود في نطاق صلب ساخن، مما يولد سائلًا حارًا ومُعَزَّزًا في قاع النواة الداخلية.

يرتفع السائل إلى النواة الخارجية السائلة ويتمازج معها، ما يؤدي إلى توليد تيارات كهربائية عبر “عمل الدينامو”، وهذا بدوره ينتج المجال المغناطيسي.

هل تساءلت يومًا ما الذي يجعل الأضواء الشمالية -الشفق القطبي- تتراقص برشاقة في السماء؟ إن ذلك بسبب النواة الداخلية.

التبلور المُبهم

يستخدم علماء الجيولوجيا نماذج محاكاة للحالة الحرارية للنواة والوشاح لفهم طريقة تطور المجال المغناطيسي للأرض عبر تاريخها.

تساعدنا هذه النماذج في فهم كيفية توزيع الحرارة وانتقالها في باطن الأرض، حيث تفترض أن النواة الداخلية الصلبة ظهرت لأول مرة عندما انخفضت حرارة السائل إلى درجة انصهاره، معتبِرةً أن هذه هي اللحظة التي بدأ فيها السائل بالتجمد. لكن، المشكلة تكمن في أن هذا لا يعكس بدقة عملية التجمد الفعلية.

لذا، استكشف العلماء عملية “التبريد الفائق”، وهي الحالة التي يُبرد فيها السائل إلى ما دون نقطة التجمد دون أن يتحول إلى صلب. تحدث هذه الظاهرة مع الماء في الغلاف الجوي، حيث تصل درجة الحرارة أحيانًا إلى -30 درجة مئوية قبل أن تتشكل حبات البَرَد، وكذلك مع الحديد في نواة الأرض.

تشير الحسابات إلى أن تجميد الحديد النقي في نواة الأرض يتطلب فعليًا تبريدًا فائقًا يصل إلى 1000 كلفن. ومع إشارة الموصلية الكهربائية الخاصة بالنواة إلى أنها تبرد بمعدل يتراوح بين 100 و200 كلفن كل مليار سنة، فإن ذلك يمثل تحديًا كبيرًا.

يُشير هذه المستوى من التبريد الفائق إلى أن النواة كان يجب أن تبقى تحت درجة انصهارها طوال تاريخها الذي يمتد من 500 إلى 1000 مليون سنة، مما يطرح تعقيدات إضافية.

نظرًا لأن الوصول إلى النواة يعد مستحيلًا فعليًا، إذ لا يتجاوز عمق الحفر الذي بلغناه 12 كيلومترًا فقط نحو مركز الأرض، فإن اعتمادنا يقتصر على علم الزلازل لفهم الجزء الداخلي من كوكبنا.

اكتُشفت النواة الداخلية للأرض عام 1936، ويبلغ قياسها حوالي 20% من نصف قطر الأرض، مما يجعلها واحدة من أفضل الخصائص المحددة للأرض العميقة.

نستخدم هذه المعلومات لتقدير درجة حرارة النواة، بافتراض أن الحدود بين الحالة الصلبة والسائلة تمثل تقاطع نقطة الانصهار مع درجة حرارة النواة.

يساعدنا هذا الافتراض كذلك في تقدير أقصى حد للتبريد الفائق الذي كان من الممكن حدوثه قبل أن تبدأ النواة الداخلية في التشكّل من نواة داخلية وخارجية متحدة.

إذا تجمدت النواة مؤخرًا نسبيًا، فإن الحالة الحرارية الحالية عند الحدود بين النواة الداخلية والخارجية تشير إلى مدى انخفاض درجة حرارة النواة المتحدة عن نقطة انصهارها عندما بدأت النواة الداخلية في التجمد لأول مرة. وهذا يشير إلى أن النواة قد تعرضت لتبريد فائق يصل إلى نحو 400 كلفن.

وهذا يعادل على الأقل ضعف ما يسمح به علم الزلازل. فإذا تعرضت النواة لتبريد فائق يصل إلى 1000 كلفن قبل التجمد، فيجب أن تكون النواة الداخلية أكبر بكثير مما رُصد. أما إذا كانت درجة 1000 كلفن ضرورية للتجميد ولم تُحقق أبدًا، فعندئذٍ ينبغي أن لا تكون النواة الداخلية موجودة على الإطلاق.

من الواضح أن أیًا من السیناریوھین غیر دقیق، فما التفسیر المنطقي لذلك؟

أجرى علماء فيزياء المعادن اختبارات على الحديد النقي وخلائط أخرى لتحديد مقدار التبريد الفائق اللازم لبدء تكوّن النواة الداخلية. ومع أن هذه الدراسات لم تقدم إجابة قطعية حتى الآن، فإن هناك تطورات واعدة.

على سبيل المثال، تعلمنا أن الهياكل البلورية غير المتوقعة ووجود الكربون قد يؤثران على عملية التبريد الفائق. تشير هذه النتائج إلى أن كيمياء معينة أو تركيب لم يُؤخذ بعين الاعتبار سابقًا قد لا يتطلب مثل هذا التبريد الفائق الضخم وغير المعقول.

إذا كانت النواة تستطيع أن تتجمد عند درجة حرارة أقل من 400 كلفن من التبريد الفائق، فقد يفسر ذلك وجود النواة الداخلية كما نراها اليوم.

إن الآثار المترتبة على عدم فهم كيفية تكون النواة الداخلية بعيدة المدى. فقد تراوحت التقديرات السابقة لعمر النواة الداخلية بين 500 إلى 1000 مليون سنة، ولكن هذه التقديرات لا تأخذ في الاعتبار قضية التبريد الفائق. حتى التبريد الفائق المتواضع الذي تبلغ حرارته 100 كلفن قد يعني أن النواة الداخلية أصغر بمئات الملايين من السنين مما كان يُظن سابقًا.

إن فهم كيفية تشكّل النواة في السجل الصخري المغناطيسي القديم الذي يُعد أرشيفًا للمجال المغناطيسي الأرضي، أمر بالغ الأهمية للباحثين في تأثير الإشعاع الشمسي على حوادث الانقراض الجماعي.

لكي نتمكن من الإحاطة بتاريخ المجال المغناطيسي على نحو أفضل، لا يمكننا تحديد دوره بالكامل في ظهور الظروف الملائمة للحياة.

اقرأ أيضًا:

لماذا نواة الأرض حارّة جدًا؟

اكتشاف بنى جديدة تحيط بنواة الأرض

ترجمة: سلیمان عبد المنعم

تدقيق: مؤمن محمد حلمي

مراجعة: باسل حميدي

المصدر