حولت أزمة ملوحة «المِسّيني» البحر المتوسط إلى صحراء مالحة. ثم امتلأ الحوض البحري من جديد في أكبر فيضان شهدته الأرض على الإطلاق.
في حقبة سابقة من الزمان، تحول البحر المتوسط إلى حوض ملحي شاسع مدة تقدّر بنصف مليون عام. لا تزال آثار هذا التحول الجيولوجي ظاهرة حتى يومنا، وما زال احتمال تكرر هذا الحدث في المستقبل البعيد قائمًا.
يُعرف هذا الحدث بأزمة ملوحة المِسّيني. إذ أدى اضطراب في مستويات البحر إلى منع تدفق المحيط الأطلسي إلى البحر الأبيض المتوسط، ما أدى إلى شبه جفاف في فترة ما بين 5.97 و5.33 مليون سنة مضت. يعتقد فريق من العلماء أن أحد الأسباب الرئيسية كان حركة الصفائح التكتونية، إذ أدى تصادم الصفائح الأفريقية والأوراسية إلى إغلاق مضيق جبل طارق تدريجيًا.
عامل آخر محتمل هو انخفاض مستويات سطح البحر، ما صعب دخول مياه المحيط عبر مضيق جبل طارق. أشارت دراسة أُجريت عام 2015 إلى أن الانخفاض العالمي في مستويات سطح البحر يرتبط بتوسع الغطاء الجليدي في القارة القطبية الجنوبية.
كان البحر المتوسط حساسًا لهذه التغيرات، لوقوعه في جيب دافئ وجاف نسبيًا من الكوكب، ما أدى إلى تبخر مياهه بمعدل سريع للغاية. ومع استمرار غياب تدفق المياه من المحيط الأطلسي، جف البحر خلال بضعة آلاف من السنين، ما خلف حوضًا ملحيًا، وجعل بعض أجزاء شمال إفريقيا متصلة بجنوب أوروبا.
نظريًا، كان بالإمكان التنقل سيرًا على الأقدام من المغرب إلى إسبانيا أو من ليبيا إلى إيطاليا. بعض الحيوانات تمكنت بالفعل من تنفيذ هذه الهجرة. يُعتقد أن الجزر الإسبانية مثل مايوركا قد استعمرتها بعض الحيوانات البرية خلال هذه الفترة من الجفاف.
بالمقابل، أدت هذه الأزمة إلى انهيار التنوع البيولوجي البحري في البحر المتوسط، إذ انقرض 89% من الأنواع البحرية المتوطنة، في حين نجا 11% من الأنواع لأسباب غامضة.
بعد فترة طويلة من الانفصال، أدت الحركات التكتونية إلى إعادة فتح المضيق، ما سمح بتدفق هائل لمياه الأطلسي إلى البحر المتوسط. عُرف هذا الفيضان الضخم بفيضان الزانكلي، وهو من أكبر الفيضانات في تاريخ الأرض.
حتى اليوم، ما زال البحر المتوسط أكثر ملوحة من المحيط الأطلسي، يرجع ذلك جزئيًا إلى العوامل الجغرافية والمناخية ذاتها التي ساهمت في أزمة الملوحة المسينية. مع أنه لم يعد منفصلًا عن الأطلسي، يظل تبادل المياه بين البحر المتوسط والمحيط عبر المضيق الضيق محدودًا، ومع تعرضه لتبخر كبير، تزداد نسبة الملوحة.
قد يتكرر حدث مشابه في المستقبل. فصفائح الأرض التكتونية في حالة حركة مستمرة، ومنطقة البحر المتوسط بالغة التعقيد جيولوجيًا، إذ تعج بمناطق صدع غير معتادة وشظايا صفائح متداخلة.
اقرأ أيضًا:
ثلث اللدائن الدقيقة (مايكروبلاستيك) مصدرها يتجاهله الجميع
كيف جفّ البحر الأبيض المتوسط منذ ملايين السنين؟
ترجمة: زين العابدين بدور
تدقيق: أكرم محيي الدين