يتناول علم البيولوجيا دراسة الكائنات الحية وعملياتها الحيوية ويتعامل هذا المجال مع كل الجوانب الفيزيائية-الكيميائية للحياة، نتناول في هذا المقال تفصيلًا تاريخيًا لبدايات هذا العلم منذ اكتشاف الخلايا.
كان روبرت هوك من أبرز علماء المجهريات وعلى اتصال بجميع التطورات العلمية الجديدة، بصفته أمينًا للآلات في الجمعية الملكية بلندن، وقد أبدا اهتمامًا بمواضيع أخرى متباينة كالطيران وتركيب الساعات. وقد نشر كتابه (ميكروغرافيا Micrographia) عام 1665 وهو مراجعة لسلسلة من الملاحظات التي دوّنها في أثناء متابعته تطوير المجهر وتحسينه، ووصف فيه بالتفصيل بنية الريش، وإبرة النحلة، وشكل اللسان، والرخويات وقدم الذباب.
كذلك صاغ هوك كلمة خلية، من خلال رسم للبنية المجهرية للفلين، إذ بيّن فيها الجدران المحيطة بالمساحات الفارغة التي مثّلت بنيتها (الخلايا). وصف هوك أيضًا تشابه بنية أنسجة الأشجار والنباتات الأخرى. ولاحظ أنه في بعض الأنسجة كانت الخلايا مليئة بسائل بينما كانت فارغة في أنسجة أخرى، فافترض أن وظيفة الخلايا هي نقل المواد عبر أجزاء النبات.
على الرغم من أن أعمال المجهريين الكلاسيكيين كانت تفتقر إلى هدف محدد، فيجب أن نتذكر أن هؤلاء من جسدوا المفهوم القائل بأن الأهمية القصوى تكمن في الملاحظة والتجربة، وأن الاعتماد على التخمينات الافتراضية والفلسفية فقط لم يكن كافيًا قط. كانت قلة قليلة منهم يعملون بمفردهم معزولين تمامًا عن بعضهم البعض، ما يُعد لافتًا جدًا. إذ وجب عليهم تسجيل الكثير من الملاحظات ذات الأهمية الأساسية، وكانت الأهمية الكبرى لعملهم هي الكشف لأول مرة عن عالم تُظهر فيه الكائنات الحية تعقيدًا لا يصدق.
ظل العمل مع المجهر المركب ضعيفًا لما يقارب 200 عام، ويرجع ذلك أساسًا إلى أن العدسات المبكرة تميل إلى تفتيت الضوء الأبيض إلى أجزائه التي تكوّنه، ولم تُحلّ هذه المشكلة التقنية حتى اختراع العدسات الأكروماتية عام 1830. وفي عام 1878 ظهر مجهر مركب أكروماتي حديث من تصميم الفيزيائي الألماني إرنست آبي، ثم صمم آبي نظام إضاءة المرحلة الفرعية الذي مهّد الطريق للاكتشافات اللاحقة في علم البيولوجيا في تلك الحقبة حين أُدخِل مكثف جديد للمرحلة الفرعية.
تطور المبادئ التصنيفية لعلم البيولوجيا
نشر عالم الرياضيات والفيزياء والفلك الإنجليزي إسحاق نيوتن عام 1687، عمله العظيم برينسيبيا Principia الذي وصف فيه الكون، إذ رأى أنه ثابت تتحرك فيه الأرض والأجسام السماوية الأخرى بانسجام وفقًا لقوانين رياضية. وهيمن هذا النهج في التنظيم والتصنيف على علم البيولوجيا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ويعود السبب في ذلك إلى اكتفاء آباء علم النبات في القرن السادس عشر بوصف النباتات ورسمها فقط. إذ جمعوا عددًا هائلًا ومتنوعًا من النباتات. وأوضحت اكتشافاتهم في الدول الأجنبية أن لكل دولة نباتاتها وحيواناتها المحلية.
بدأ أرسطو عملية التصنيف معتمدًا على طريقة التكاثر والمسكن الطبيعي للتمييز بين مجموعات الحيوانات، واستخدم أيضًا التصنيف على أساس الجنس (genos) والنوع (eidos).
أما عالم النبات السويسري غاسبار بوهان فقد قدم نظامًا ثنائي الحدود للتصنيف، مستخدمًا اسمًا عامًا واسمًا محددًا. وكانت معظم مخططات التصنيف المقترحة قبل القرن السابع عشر مشوشة عمومًا وغير مُرضية.
استخدام البنية لتصنيف الكائنات الحية
كان عالم الطبيعة الإنجليزي جون راي وعالم الطبيعة والمستكشف السويدي كارولوس لينيوس هما المسؤولين عن التصنيف في القرنين السابع عشر والثامن عشر. إذ كان جون راي مهتمًا بعمل جامعي النباتات القدامى خصوصًا وبخاصة أولئك الذين حاولوا صياغة بعض من أساليب التصنيف.
استخدم راي في مخططاته التصنيفية أوصافًا دقيقةً للغاية للأجناس، والأنواع، لأنه أدرك الحاجة إلى نظام تصنيف ينطبق على كل من النباتات والحيوانات. واعتمد في نظامه على البنية، مثل ترتيب أصابع القدم والأسنان عند الحيوانات بدل الاعتماد على اللون أوالموائل (المَوَاطن)، وقدم أيضًا مفهومًا جديدًا ومهمًا جدًا لعلم البيولوجيا التصنيفية.
إعادة تنظيم مجموعات الكائنات الحية
بدأ معظم علماء تصنيف البيولوجيا قبيل لينيوس أنظمة التصنيف الخاصة بهم، وذلك بتقسيم جميع الكائنات المعروفة إلى مجموعات كبيرة، ثم تقسيمها إلى مجموعات أصغر تدريجيًا.
لكن لينيوس على عكس أسلافه بدأ مع الأنواع ونظمها في مجموعات أو أجناس أكبر، ثم رتّب الأجناس المماثلة لتشكيل العائلات، والعائلات ذات الصلة لتشكيل الرتب والطبقات. وباستخدام الأعمال السابقة للعالم غريو وآخرين، اختار لينيوس بنية الأعضاء التناسلية للزهرة أساسًا لتجميع النباتات الأعلى، فميّز بين النباتات الزهرية (ذوات البذور phanerogams)، والنباتات اللازهرية (عديمات البذور cryptogams)، كذلك قسّم النباتات اللازهرية إلى أشكال خنثوية (ثنائية الجنس) وغير جنسية.
اعتمد لينيوس في تقسيم الحيوانات، على الأسنان وأصابع القدم بوصفها خصائص أساسية للثدييات، واستخدم شكل المنقار أساسًا لتصنيف الطيور، وبعد أن أثبت إمكانية استخدام نظام التصنيف ثنائي الحدود القائم على أوصاف موجزة ودقيقة لتجميع الكائنات الحية، أنشأ لينيوس تخصص علم البيولوجيا التصنيفية.
طوّر بعد ذلك علماء الأحياء الفرنسيين كونت دي بوفون وجان بابتيست لامارك وجورج كوفييه علم التصنيف البيولوجي، وقدموا جميعًا مساهمات دائمة في علوم البيولوجيا، وبخاصة في مجال الدراسات المقارنة.
اهتم علماء التصنيف اللاحقون بالعلاقات بين الحيوانات، وسعوا إلى شرح أوجه التشابه بينهم، إلى جانب الاختلافات في المصطلحات العامة التي تشمل البنية والتكوين والوظيفة وعلم الوراثة والتطور والبيئة.
تطور الدراسات البيولوجية المقارنة
تبدد الازدراء المرتبط بتشريح الأجسام البشرية في القرن السادس عشر، وقد وجّه علماء التشريح جهودهم بعدها نحو فهم أفضل للبنية البشرية، إذ تجاهلوا عمومًا الحيوانات الأخرى على الأقل حتى أواخر القرن السابع عشر، عندها بدأ علماء الأحياء يدركون أنه يمكن اكتساب رؤى مهمة بالدراسات المقارنة لجميع الحيوانات ومنهم البشر.
كان الطبيب الإنجليزي إدوارد تايسون أحد علماء التشريح الأوائل، درس تشريح الشمبانزي غير البالغ بالتفصيل وقارنه بتشريح جسم الإنسان، وبالمزيد من المقارنات بين الشمبانزي والكائنات الرئيسية الأخرى، أدرك نقاط التشابه بين تلك الحيوانات والبشر بوضوح، وساهم ذلك كثيرًا في الأنثروبولوجيا الفيزيائية، وكان أيضًا مؤشرًا على وجود علاقات بين البشر والكائنات الرئيسية الأخرى قبل قرنين تقريبًا من قدوم داروين.
استخدم جورج كوفييه مجموعات كبيرة من العينات البيولوجية المرسلة إليه من جميع أنحاء العالم للعمل على تنظيم منهجي لمملكة الحيوان. إذ كان من بين أولئك الذين أعطوا الدراسات المقارنة اهتمامهم الأكبر. وأقام صلة بين التشريح المنهجي والمقارن، إذ كان يعتقد بوجود ارتباط بين الأجزاء التي بموجبها يرتبط نوع معين من التركيب (مثل الريش) بتكوين تشريحي معين (مثل الجناح) الذي يرتبط بدوره بتشكيلات محددة أخرى (مثل الترقوة) وما إلى ذلك. وشعر كوفييه أنه بالوسع استنتاج قدر كبير من المعلومات التشريحية حول كائن حي ما حتى لو لم تكن تلك العينة متاحة بأكملها.
كان دور كوفييه رائدًا إذ كان لنظريته أهمية عملية كبرى في دراسة الحفريات، وساهم نشر كوفييه لكتابه بعنوان (أبحاث حول المستحاثات الفقارية) عام 1812 بوضع حجر الأساس لعلم الحفريات، إذ افترض كوفييه سلسلةً من الأحداث الكارثية التي قد تفسر وجود الحفريات، وثبات الأنواع الموجودة، وذلك من أجل التوفيق بين نتائجه العلمية ومعتقداته الدينية الشخصية.
دراسة أصل الحياة
يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: إذا اشترط تطور نوع ما وجودَ نوع يسبقه، فكيف نشأت الحياة إذن؟
كانت نظرية التولّد التلقائي واحدة من بين كثير من الأفكار الفلسفية والدينية التي قُدّمت لإجابة هذا السؤال، ووفقًا لها قد تنشأ الكائنات الحية من مادة غير حية.
مع تزايد وتيرة الاكتشافات خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، بدأ الباحثون بدراسة الاعتقاد اليوناني القائل بأن الذباب، والحيوانات الصغيرة الأخرى نشأت من الوحل في قاع الجداول والبرك بالتوليد التلقائي.
فبدا لهارفي أنه قد حل المشكلة المتعلقة بالنباتات المُزهرة والحيوانات العليا عندما أعلن عن مفهومه البيولوجي (ex ovo omnia – كل شيء يأتي من بويضة)، فكلّها تتطور من بويضة.
جاء بعد ذلك اكتشاف أنطوني فان ليفينهوك الذي أظهر وجود عالم مكتظ بالأحياء، ولكنه غير مرئي سابقًا؛ تلك التي كان من المفترض تفسيرها أولًا.
كان الطبيب والشاعر الإيطالي فرانشيسكو ريدي من أوائل الذين شككوا في التوليد التلقائي للكائنات الحية، وذلك بعد مراقبته لتطور الديدان والذباب على اللحوم المتحللة. إذ أجرى عددًا من التجارب عام 1668، أشار في جميعها إلى نفس النتيجة: إذا استُبعد الذباب من اللحوم الفاسدة فلن تتطور الديدان، لكن البيوض التي يضعها الذباب تتطور إلى يرقات على اللحوم المعرضة للهواء.
عاد الدعم إلى مفهوم التولّد التلقائي عام 1745 تزامنًا مع نشر عالم الطبيعة الإنجليزي والكاهن الروماني الكاثوليكي جون توربير فيل نيدهام بعض الاكتشافات المجهرية الجديدة. إذ وجد نيدهام أن أعدادًا كبيرة من الكائنات الحية تطورت لاحقًا في حقن مُعدّة من عدة مواد مختلفة ومعرّضة لحرارة شديدة في أنابيب مغلقة لمدة 30 دقيقة. ولأنه افترض أن مثل هذه المعالجة الحرارية يجب أن تكون قد قتلت أي كائنات حية سابقة، فسّر وجودها إذن على أساس التوليد التلقائي، إذ بدت التجارب مؤكدة حتى كررها الفيزيولوجي الإيطالي لازارو سبالانزاني وحصل فيها على نتائج متضاربة.
نشر سبالانزاني النتائج التي توصل إليها حوالي عام 1775 وادعى أن نيدهام لم يُسخن الأنابيب التي استعملها فترة كافية ولم يغلقها بطريقة صحيحة. ومع أن نتائج سبالانزاني كانت يجب أن تكون مقنعة، فإن نيدهام حصل على دعم عالم الطبيعة الفرنسي المؤثر بوفون ما أبقى مسألة التولّد الذاتي من دون حل.
اقرأ أيضًا:
مقدمة إلى علم البيولوجيا التركيبية
ما هو علم الأحياء الدقيقة – الميكروبيولوجيا ؟
ترجمة: لجين الحفار
تدقيق: منال توفيق الضللي
مراجعة: محمد حسان عجك