مع نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، أعلنت مجموعة من المفكرين الإيطاليين أنهم يعيشون عصرًا جديدًا. لقد انتهت العصور الوسطى -الهمجية- غير المستنيرة، كما قالوا، والعصر الجديد سوف يكون «الميلاد الجديد» للتعلم والأدب والفنون والثقافة. كانت هذه ولادة الفترة المعروفة الآن باسم عصر النهضة. لقرون من الزمان، اتفق العلماء على أن عصر النهضة الإيطالي ، أو ما يُسمى «الميلاد الجديد»، حدث على هذا النحو: ما بين القرن الرابع عشر والقرن السابع عشر حلّت طريقة حديثة في التفكير بشأن العالم ومكانة الإنسان فيه محل الطريقة القديمة.
الواقع أن عصر النهضة -في إيطاليا وفي أجزاء أخرى من أوروبا- كان أعقد من ذلك، إن الفترة التي نسميها عصر النهضة لم تكن مختلفة عن الحقبة التي سبقتها. ومع ذلك، فإن الإنجازات العلمية والفنية والثقافية الكثيرة لما يُسمى بعصر النهضة تشترك في عدة مواضيع، أبرزها الاعتقاد بأن الإنسان هو مركز عالمه.
سياق النهضة الإيطالية
كانت إيطاليا في القرن الخامس عشر مختلفة عن سائر أوروبا، إذ كانت مقسمة إلى دول مستقلة، كل منها يحكمه نوع مختلف من الحكومات. كانت فلورنسا جمهورية مستقلة، وكانت أيضًا عاصمة مصرفية وتجارية، وثالث أكبر مدينة أوروبية بعد لندن والقسطنطينية. كان أهل فلورنسا الأثرياء يستعرضون أموالهم وقوتهم عبر دعم الفنانين والمفكرين ورعايتهم. لهذا أصبحت المدينة المركز الثقافي لأوروبا وعصر النهضة.
هل تعلم؟ عندما توفي غاليليو سنة 1642، كان لا يزال رهن الإقامة الجبرية. ولم تعفُ عنه الكنيسة الكاثوليكية حتى عام 1992.
الإنسانية الجديدة: حجر الزاوية لعصر النهضة
بفضل رعاية النخب الثرية، استطاع كُتَاب عصر النهضة ومفكروه التفرغ. وبدلًا من تكريس أنفسهم للوظائف العادية أو رهبانية الدير، أصبح بوسعهم التمتع بملذات دنيوية، إذ سافروا إلى مختلف أنحاء إيطاليا، ودرسوا الآثار القديمة وأعادوا اكتشاف النصوص اليونانية والرومانية.
أما علماء عصر النهضة وفلاسفته، فقد جمعت المصادر الكلاسيكية من اليونان القديمة وروما القديمة حكمًا عظيمة. كانت علمانيتهم، وتقديرهم للجمال الجسدي، وتركيزهم على إنجازات الإنسان وتعبيراته، بمثابة المبدأ الفكري الحاكم في عصر النهضة الإيطالية، وتُعرف هذه الفلسفة بـ «الإنسانية».
العلم والتكنولوجيا
شجعت الإنسانية الناس على الفضول والشك في الحكمة التي تلقوها، خاصةً تلك التي كانت سادت بفعل الكنيسة في القرون الوسطى. وشجعت استخدام التجريب والملاحظة لحل المشكلات الدنيوية. لذا ركز كثير من مفكري عصر النهضة على محاولة تحديد قوانين الطبيعة والعالم المادي وفهمها. مثلًا، أجرى فنان عصر النهضة ليوناردو دافنشي دراسات علمية مفصلة لأشياء، تتضمن الطائرات والغواصات، إضافةً إلى دراسات رائدة عن التشريح البشري.
وأثبت العالم والرياضي جاليليو جاليلي قانونًا طبيعيًا تلو الآخر. مثلًا، بإسقاط كرات مختلفة الأحجام من أعلى مبنى، أثبت أن كل الأجسام تسقط بنفس التسارع. وعمل على بناء تلسكوب قوي واستخدامه لإظهار أن الأرض والكواكب الأخرى تدور حول الشمس لا العكس كما زعمت السلطات الدينية. ولهذا السبب، ألقي القبض على جاليليو بتهمة الهرطقة وهُدد بالتعذيب والموت، لكنه رفض التراجع، وقال: «لا أعتقد أن الرب الذي وهبنا الحواس والعقل والفكر يريد منا التخلي عن استخدامها».
ربما كان التطور التكنولوجي الأهم في عصر النهضة هو ما حدث في ألمانيا لا إيطاليا، إذ اخترع يوهانس غوتنبرغ طابعة ميكانيكية متنقلة في منتصف القرن الخامس عشر. للمرة الأولى، أصبحت طباعة الكتب ممكنةً، وأصبحت المعرفة متاحة على نطاق واسع.
الفنون والعمارة
»ديفيد« لمايكل أنجلو، »العشاء الأخير« لليوناردو دافنشي، »مولد فينوس« لساندرو بتيشيلي، كان الفن في كل مكان خلال عصر النهضة الإيطالي. فقط تأمل لوحة الخلق التي رسمها مايكل أنجلو على سقف كنيسة سيستين. دعم السادة -مثل أسرة ميديتشي في فلورنسا- مشروعات ضخمة وصغيرة، وأصبح الفنانون الناجحون من المشاهير.
طبق فنانو عصر النهضة ومهندسوه مبادئ الإنسانية في عملهم. مثلًا، طبّق المهندس المعماري فيليبو برونيليشي مبادئ الهندسة المعمارية الرومانية الكلاسيكية – الأشكال والأعمدة، وخاصةً التناسب- في المباني الخاصة به. كانت القبة الرائعة ثُمانية الجوانب التي بناها في كاتدرائية سانتا ماريا ديل فيور في فلورنسا إنجازًا هندسيًا، إذ كانت بعرض 44 مترًا، وبلغ وزنها 37000 طن، دون أي دعامات للرفع، إضافةً إلى الشكل الجمالي.
وابتكر برونيليشي طريقة للرسم باستخدام منظور خطي. ما يعني أنه عرف كيف يرسم من منظور الشخص الذي ينظر إلى الرسم، إذ يبدو أن الفراغ ينحسر داخل الإطار. وبعد أن شرح المهندس ليون باتيستا ألبرتي مبادئ المنظور الخطي في أطروحته «ديلا بيتورا» (في اللوحة)، أصبح هذا المفهوم أحد أكثر العناصر الجديرة بالملاحظة في كل لوحات عصر النهضة تقريبًا. لاحقًا، بدأ الكثير من الرسامين باستخدام تقنية تُسمى «تشياروسكورو»، لخلق وهم من الفضاء ثلاثي الأبعاد على لوحة مسطحة.
في كتابه «حياة الفنانين»، وصف الفنان والمعماري الإيطالي «فاساري» رسام اللوحات الجدارية في كنيسة سان ماركو في فلورنسا «فرا أنجيليكو» بأنه «موهبة نادرة ومثالية». ابتكر رسامو عصر النهضة، مثل رافائيل وتيتان وجيوتو، ونحاتون مثل دوناتيلو ولورينزو جيبرتي فنًا ألهم أجيالًا من الفنانين في المستقبل.
نهاية عصر النهضة الإيطالي
بحلول نهاية القرن الخامس عشر، كانت إيطاليا تمزقها الحرب تلو الأخرى. فقد سعى ملوك إنجلترا وفرنسا وإسبانيا، إلى جانب البابا والإمبراطور الروماني المقدس، من أجل السيطرة على شبه الجزيرة الغنية. وفي الوقت نفسه، بدأت الكنيسة الكاثوليكية، التي عصفت بها الفضيحة والفساد، حملة عنيفة ضد المنشقين. سنة 1545، أنشأ مجلس ترينت رسميًا محاكم التفتيش الرومانية. في تلك الأجواء، كانت الإنسانية أقرب إلى الهرطقة، وانتهت النهضة الإيطالية.
اقرأ أيضًا:
تاريخ الطب: الطب في القرون الوسطى وعصر النهضة
مايكل أنجلو فنان عصر النهضة: السيرة الذاتية
ترجمة: لميس الأزعر
تدقيق: محمد أبو دف
مراجعة: أكرم محيي الدين